»»
ويتجدد اللقاء مع إبداعات أدباء ومواهب أبناء أرض الكنانة..وقد أهدي الأديب مدحت الخطيب بوابة “الجمهورية والمساء” عمله المبدع “دموع أم فاطنة”، والتي نسجها في ثياب القصة القصيرة..وننشرها عبر هذه السطور..
🍂
“دموع أم فاطنة“.. !!
»» قصة قصيرة
بقلم ✍️ مدحت الخطيب “المحامي ”
في إحدى حارات المناطق الشعبية كانت أم فاطنة تسكن في ذلك المنزل الذي يبدو أنه شُيِّدَ في منتصف القرن التاسع عشر أو ربما في أوله، فهو مكون من دور واحد فقط بالطوب اللبن والسقف من البوص والجريد والخشب، وصار بعد عشرات السنين كما لو كان مقبرة فرعونية، إذ لم يعد يظهر منه سوى المتر الواحد أو أقل فوق مستوى سطح الأرض، وإذا أردت دخوله فعليك أن تنزل على هذه السلالم حتى تقف أمام البوابة الخشبية ذات الضلفتين، ومنها إلى صالة مساحتها تسعة أمتار تقريبا، وعلى اليمين حجرة لها كوة في أعلي الحائط تطل على الحارة لتضفي بعض الهواء والإنارة داخل الحجرة، وعلى اليسار مطبخا لا يزال محتفظا بعبق الماضي من حيث وابور الجاز والحلل النحاسية والهون النحاسي وغير ذلك من الأدوات التي انقرضت في الوقت الحالي، ثم دورة مياه ذات مرحاض بلدي، وشباك صغير يطل على مسقط نور.
كانت أم فاطنة تسكن في هذا المنزل مع زوجها منذ أن استأجره في منتصف السبعينات من القرن العشرين، ثم استمرت تقيم فيه مع ابنتها الوحيدة فاطنة بعد وفاته ولم يكن قد بلغ بعد السادسة والعشرين من عمره، وكافحت الحياة ونافحت القهر حتى جهزت ابنتها واطمأنت عليها حين زوجتها لرجل طيب يأكل ويصرف عليها من كد يده وعرق جبينه.
في ذات يوم من أيام أغسطس الماضي ارتدت أم فاطنة عباءة الخروج السوداء وخرجت من بيتها لتعود زوج ابنتها الذي كان لا يزال داخل غرفة العمليات بالمستشفى العام، حيث كان يعتلي النخلة لجمع بلح الزغلول فاختل توازنه فجأة فسقط إلى الأرض، ومن ثم نقلوه إلى المستشفى لتركيب شرائح ومسامير في عظام كتفيه وساقيه.
عادت أم فاطنة إلى منزلها بعد أن أمضت نصف الليل في المستشفى، فخلصت جسدها من ملابس الخروج وبدلتها بقميص خفيف، ودخلت دورة المياه لتلبي نداء الطبيعة، وبينما هي وحدها في تلك الساعة المتأخرة من الليل إذ تفصل السلطات التيار الكهربائي عن المنطقة تخفيفا للأحمال، وعندئذ حاولت أم فاطنة الخروج من دورة المياه قبل أن يخرج الجن الذي يسكن دورات المياه من مخبئه فيلبسها ويدخل جسدها كما حدث مع جارتها الست حمدية العام الماضي.
وبينما كانت تحاول الخروج من دورة المياه إذ تعثرت قدمها في طست الغسيل الألمونيوم، فمدت يديها تبحث عن الحائط أو حوض الغسيل أو أي شيء تستند إليه لتتحاشى السقوط لكنها لم تجد إلا الفراغ، وفي تلك اللحظة سقطت على الأرض وقد فقدت الوعي تماما، فلما استردت وعيها وجدت نفسها على سريرها وفاطنة بجانبها، ويبدو أنه مر يوم أو أكثر أو أقل، فضوء النهار يملأ الحجرة من خلال الكوة المطلة على الحارة، وعلب الدواء على المنضدة بجوار السرير.
حاولت الاستفهام من فاطنة عن حالها، لكنها لم تستطع النطق، فحاولت تحريك رأسها ناحية منضدة الأدوية، لكنها لم تستطع تحريك رأسها، شعرت أنها بلا يدين وبلا قدمين، إنها لا تشعر بوجودهما، فحاولت بسط كفيها أمام عينيها لتتأكد من وجودهما، لكنها لم تستطع رفعهما من على السرير، فحاولت هز رجليها، لكنها فشلت ولم تقو على تحريكهما، ومن ثم تأكد لها أنها أصيبت بشلل رباعي.
لم تكن فاطنة تتواجد من حين إلى حين في المقام الأول بمنزل أمها بقصد رعايتها والقيام عليها، بقدر ما كانت تتواجد بقصد استغلالها والاستيلاء على أموالها ومقابلة عشيقها وقضاء الساعات في ممارسة الحرام معه.
كانت الساعة تقترب من الثانية عشر ظهرا عندما جاء حمحم بعربته الكارو المحملة بجوال كبير بحجم سطح العربة وقد امتلأ نصفه بالكراتين الورقية ونصفه الآخر بالزجاجات البلاستيكية التي جمعها من الطرقات ومقالب الزبالة فأدخلها الحارة وأوقفها أمام منزل أم فاطنة وقد ربط الحمار الذي يجرها في أحد أعمدة الإنارة واضعا نصف صفيحة التبن أمامه ليأكل منها كما يريد، تاركا العربة التي شغلت نصف الحارة عرضا، ومن ثم نزل عبر السلالم حتى وقف أمام البوابة الخشبية حيث كانت فاطنة في انتظاره.
لم تكن هذه هي أول مرة تستقبل فاطنة عشيقها في منزل والدتها منذ أن مرضت وأصيبت بالشلل الرباعي، ولكن يمكن القول أنه ما من يوم إلا وهي في أحضان حمحم يمارسان الرذيلة والحرام على السرير بجانب والدتها التي لا تملك سوى النظر إليهما بعينيها حيث تخون ابنتها زوجها الطيب، تنظر بعينيها وتسمع بأذنيها والشلل يمنعها من إيقاف هذه المهزلة التي تحدث بجوارها على ذات السرير الذي ترقد عليه، وكل ما تستطيع فعله هو البكاء والدعاء عليهما في سرها.
في ظهيرة هذا اليوم كان اللقاء المعتاد بين فاطنة وحمحم، فتناولت الغداء معه، ثم توجهت إلى المطبخ فحممت الفحم، وجاءت بالنرجيلة ومستلزماتها فوضعتها أمام حمحم وقد صنعت كوبا من الشاي له وآخر لها، ومن ثم أخرج من جيبه لفافة سلوفانية صفراء اللون حيث فضها واقتطع جزءا من نبات الحشيش المخدر الموجود داخلها فوضعها على رأس النرجيلة وبدأ يتبادل التدخين مع فاطنة، وكلما احترق التبغ وضع غيره، ووضع جزءا جديدا من نبات الحشيش المخدر.
تعبأت الغرفة بدخان التبغ المحترق الممتزج بالنبات المخدر حتى كادت أم فاطنة أن تختنق بسببه، ولكنها لم تستطع فعل شيء، ولولا عجزها لكانت أمسكت النرجيلة وهشمت بها رأس الفاسقين وطردتهما خارج منزلها الطاهر الذي لم يلوث قط بالرذيلة، ورغم عجزها وقلة حيلتها إلا أنها كانت مع كل قرقرة ترفع عينيها وتنظر في السماء وتدعو ربها لينتقم لها من تلك الفاجرة التي دنست شرف العائلة ووضعت رؤوسهم في الوحل والطين، ومع كل دعوة ترفعها إلى ربها تهطل الدموع من مآقيها حتى بللت المخدة تحت رأسها.
بدأت المادة المخدرة يظهر أثرها على فاطنة وحمحم اللذين اعتليا السرير الذي ترقد عليه تلك العجوز التي لا تملك سوى الدعاء والحسبنة على ابنتها، ويبدو أن فاطنة رأت في عيني أمها ودموعها دعوات الانتقام عليها والاحتساب إلى الله منها فلم ترق لها تلك الدموع ، فنظرت إلى عشيقها وقالت:
فاطنة: أنا لست على ما يرام من عبرات أمي.
حمحم: أعتقد إنها تحسبن علينا.
فاطنة: أكيد .. ولذلك لاأريد رؤية هذه المرأة وهي تبكي، ولا أريد رؤية دموعها التي أغرقت المخدة وأغرقتنا.
حمحم: ماذا تقصدين؟.
هل تقصدين استكمال متعتنا على الكنبة الاستانبولي التي في الصالة؟.
فاطنة: لا ..ولكن عليك أن تفكر في أي طريقة تجعلني لا أرى هذه الدموع.
ارتأى حمحم أن توضع ملاءة أو أي قطعة من القماش على وجه الأم حتى لا يريانها وهي تدعو عليهما وتتحسبن، ونظرت الابنة الفاجرة العاقة حولها فوجدت وسادة قطنية صغيرة فالتقمتها بيدها فوضعتها على وجه أمها، ولكن الوسادة لم تمنع نزول الدموع واستمرار الدعاء والحسبنة، وخشي حمحم أن تختنق العجوز فأزاح الوسادة من على وجهها وخلع الإيشارب من على رأسها فوضعه على وجهها، ولكن الفاجرة العاقة كانت تريد أكثر من تغطية الوجه، فأخذت تقلب أمها ذات الجسد المشلول بيديها، حتى إذا صارت على حافة السرير دفعتها بإحدى قدميها لتسقط المسكينة وقد التصق وجهها بالأرض، وكأن الله أراد أن يخفف عن العجوز ألم النظر إلى ابنتها وهي في حضن عشيقها بلا حمرة من الخجل.
نزلت فاطنة من على السرير بعد أن تمتعت في الحرام لتذهب إلى دورة المياه فتعثرت قدمها بجسد أمها وكادت أن تسقط على الأرض ولكن حمحم أسرع فأمسكها من خلفها وأنقذها من السقوط، فازدادت بسبب ذلك حنقا، فقلبت أمها بقدمها وجثت بركبتيها على الأرض وأمسكت برأس أمها وصاحت فيها: ما لكِ يا امرأة؟ .. لماذا تدعين عليَّ؟ .. لماذا تحسبنين عليَّ؟ لقد قلت لكِ مرارا وتكرارا إنني لا أحب عبد الوهاب ومع ذلك أرغمتيني على الزواج به، وكم قلت لكِ مرارا وتكرارا إنني أحب حمحم وهو يحبني ويريد أن يتزوجني ولكنكِ رفضتيه، أنا لا زلت أحب حمحم يا امرأة وهو لا يزال يحبني، لماذا تقفين ضدي حتى وأنتِ قعيدة الحركة وبينك وبين القبر خطوات؟.
هكذا كانت تصيح في أمها، تصيح فتسيل دموع الأم، وكلما زادت الدموع زاد الصياح، وكلما اشتد الصياح غزرت الدموع، فلم نعد نعرف أيهما السبب للآخر، وإن كنا نعرف سبب الدموع، فهي دموع القهر والقسر والضعف وانعدام الحيلة، كما أننا نعرف أيضا سبب الصياح، فهو البغض والغيظ والغل، هي تبغض أمها التي أجبرتها على الزواج بعبد الوهاب الذي لا تحبه رغم أنه رجل طيب يأكل من كد يده، هي تكرهها لأنها رفضت حمحم الذي أدين في جرائم مخدرات وسرقات ولا يزال يقضي فترة المراقبة في العديد من القضايا، ولكنها رغم ذلك كله تحبه.
ومع استمرار الدموع التي ليس لها معنى سوى الدعاء والحسبنة على هذه الفاجرة العاقة، بدأ إبليس يظهر على المسرح ويبث سمومه في قلب فاطنة وعشيقها، فماذا لو حدثت معجزة الآن فاستردت الأم صحتها وعافيتها وصارت قادرة على الحركة والكلام؟، لا شك أنها ستنتقم منها هي وعشيقها، ربما انتقمت بنفسها، وربما اتصلت بالنجدة، وربما قتلتها بيديها لتشفي غليلها ويبرأ صدرها، والحل الآن يجب أن يكون باتخاذ موقف ايجابي، موقف يمنع أي احتمال لحدوث هذه المعجزة، والموقف الايجابي هذا لن يكون إلا بإنهاء حياة هذه الأم والتخلص من جثتها، فالأموات لا خشية منهم أبدا، والأموات لن يبلغوا عنا عندما نتجاوز القانون ونخالفه.
وهكذا استمعت فاطنة إلى الشيطان وأنصتت، وبدأ حديثه يسري في دمائها، فتركت رأس الأم الكسيحة واتجهت إلى عشيقها تشاوره، واستقر الرأي بينهما على كتم أنفاس الأم ثم تقطيع الجثة قِطَعًا صغيرة وتقديمها إلى كلاب الشوارع، فعادت تجاه أمها لتنفيذ الخطة التي تم الاتفاق عليها وبيدها قطعة مبللة من القماش لتسهيل عملية الخنق مثل ريا وسكينة، ونظرت إلى عيني أمها، فإذا الدموع لا تزال تنهمر منهما، ولم تكن دموع دعاء عليها هذه المرة، ولكنها دموع استعطاف ورجاء وتوسل، كانت تقول لها عبر هذه الدموع لماذا تفعلين بي ذلك يا فاطنة؟ لماذا تريدين قتلي بهذه الطريقة البشعة؟ ألهذه الدرجة هانت أمك عليك؟ أنسيتي من أنا يا فاطنة؟ استحلفك برب الكون أن ترحمي المرأة العاجزة عن الدفاع عن نفسها، ارحمي أمك المريضة بالشلل الرباعي التي لا تملك سوى الاستسلام والاستلقاء على سرير المرض لا حول لها ولا قوة إلا بربها، وإن كان على حمحم يا فاطنة فتزوجيه، تزوجيه يا فاطنة، لن أعترض عليه يا فاطنة، إني موافقة، بل إني سأرقص في فرحك يا فاطنة إن كتب الله لي الشفاء، يا فاطنة .. أنا بحاجة إلى الدواء، ناوليني جرعة العلاج يا فاطنة.
ابتعدت فاطنة عن أمها فجأة واتجهت إلى حمحم وقالت له:
فاطنة: وهل تضمن يا حمحم عدم إلقاء القبض علينا والحكم علينا بالإعدام؟.
حمحم: أضمن ذلك، إذ كيف سيعرف البوليس أننا فعلنا ما فعلنا؟، إنناإذن.ترك شيئا من الجثة، سنقدمها إلى كلاب الشوارع فتلتهمها حتى لا يتبقى منها شيء، فكيف سيعرف البوليس أننا قتلنا أمك دون وجود جثتها؟.
فاطنة: لكني أخشى أن يقبضوا علينا ويعذبوننا بوسائلهم الخاصة حتى نقر ونعترف.
حمحم: إذن .. ما الرأي عندك؟.
لم تكن فاطنة تمتلك في هذا الوقت أي عقل تفكر وتبدي به رأيا، فعقلها وكأنه مصاب بالشلل، ولكن أنى للشيطان أن يتخلى عنها في هذه اللحظات الهامة؟، ومن ثم عرضت الخطة الجديدة على حمحم وقالت عن لسان الشيطان: سأذهب إلى حماتي بعد قليل، وسأفتعل معها المشاكل حتى أجبرها على تبادل التشاجر والتعارك بيننا، وستعلو بالطبع أصواتنا وصراخاتنا، وسأفتعل إصابات بجسدي وبجسدها، وسأستدعي النجدة وسأتهمها بالعدوان عليَّ وإحداث الإصابات التي بجسدي، وستضطر بدورها إلى توجيه الاتهام لي بالعدوان عليها وإحداث الإصابات التي بها، وستصطحبنا سيارة النجدة إلى ديوان القسم لعمل المحضر اللازم واستخراج التقارير الطبية بالإصابات المفتعلة.
ويبدو أن حمحم لم يفهم المغزى من هذه الخطة فسأل: وما علاقة ذلك بالتخلص من أمك؟.
نظرت فاطنة إليه باستغراب وقالت: ألم تدرك العلاقة حقا؟.
قال: كان يجب أن تفكري في طريقة نتخلص بها من أمك، ولكنك رسمتِ سيناريو لا علاقة له البتة في موضوعنا.
قالت: افهم يا حمحم .. لو تم تنفيذ هذا السيناريو كما أريد، فهذا معناه أنني سأقضي اليوم في الحجز حتى يتم العرض على النيابة، وبعد العرض سأقضي معظم الغد في قسم الشرطة حتى يتم إخلاء سبيلي، وهذه الفترة التي سأمضيها هناك كافية لإنهاء حياة أمي، فهي تتناول جرعاتها العلاجية في مواعيد محددة، وأي تأخير في تناول الجرعة كفيلة بإحداث الهبوط الحاد في الدورة الدموية هبوطا يؤدي إلى موتها، ومن ثم سنكون بعيدين عن أي مساءلة قانونية بشأن موتها، لأن ابتعادي عنها لم يكن طوعا، وعدم تقديمي الجرعات العلاجية لها كان كما لو كان كرها.
استقر الرأي على هذه الخطة اتقتليني. الشيطان على لسان فاطنة التي كادت تنصرف لولا أنها نظرت إلى أمها الملقاة على الأرض، ومن ثم تذكرت أنه يجب إعادة هذه الأم المغلوبة على أمرها إلى سريرها وتنظيف ملابسها من أي اتساخ ربما يكون قد علق به، إذ لو توفيت حال وجودها على الأرض فسوف ترتاب السلطات في الأمر وستبحث عن الشخص الذي دخل المنزل وأسقطها من على السرير وستحوم الشبهات حول فاطنة وحمحم بكل تأكيد، ولذلك اتجهت هي وعشيقها ناحية الأم ليرفعانها من على الأرض ويضعانها على السرير، وعندئذ وقعت عيناها في عيني أمها اللتين لا تزالان تذرفان بدموع الاستعطاف والترحم والرجاء.
لم يكن عند فاطنة أي قدر من العطف والرحمة تجاه أمها ذات الشلل الرباعي، وكانت دموع الرجاء التي تنزل من مقلتي هذه الكسيحة تزيد ابنتها الفاجرة العاقة فجورا وعقوقا، كانت الدموع تقول وقد اعتصرها الألم: اتركيني يا فاطنة .. أنا أمك يا فاطنة .. استهدي بالله ولا تسمعي كلام الشيطان .. استحلفك بخاطري اتركيني ولا تقتليني .. ارحمي عجزي وضعفي يابنتي. .. اجبري خاطري فإنه لا طاقة لي على القتل بهذالقسوة. .. اجبري خاطري وليعف الله عنكِ يا فاطنة.
لم تستجب فاطنة لدموع أمها التي كانت تهطل كالمطر، ولم ترحم أما أعجزها الشلل الرباعي عن الدفاع عن نفسها أو عن الاستغاثة والاستنجاد بالجيران، ولم تأبه فاطنة بتلك العبرة الأخيرة التي تحجرت في مقلة أمها الكسيحة الصامتة، تلك المسكينة التي تمنت وقتها أن يصل الشلل إلى أذنيها حتى لا تسمع الخطة التي وضعتها ابنتها للتخلص منها، وأن يصل الشلل إلى عينيها حتى لا ترى فلذة كبدها وهي تقتلها بيديها، فالصمم والعمى يا فاطنة يهونان على أمك، والشلل يا فاطنة يهون على أمك، بل إن الموت يا فاطنة أيضا يهون على أمك، ولكن ما لا يهون عليها هو أن تقتليها بيديكِ ، وما لا يهون عليها أن تكسري خاطرها، وأن ترحلي دون أن تناوليها جرعة الدواء، ودون أن تغيري لها الحفاضة التي امتلأت حتى كادت أن تنفجر، ودون أن تمسحي تلك الدموع التي لن تتوقف إلا عندما يحين موعد الجرعة العلاجية فلا تتعاطاه لعجزها ولعدم وجودك بجانبها.
نفذت فاطنة الخطة كما رسمتها.
وماتت أمها.
وكادت فاطنة وعشيقها يستمتعان بحياتهما بعد موت الأم، لولا ذلك اللص الذي ساقته الأقدار من أجل السرقة، فشاهد بعينيه لحظات العهر والرذيلة، وسمع بأذنيه خطة الشيطان على لسان فاطنة!.
🍂