# من أول السطر
للوهلة الأولى حين نسمع كلمة “بكالوريا” تعود بنا الذكريات إلي الاربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، والتي كانت تسمي أيضا “التوجيهية”، وربما تعود للأذهان أفلام الأبيض والأسود وصور طلابها وهم يرتدون الزي الرسمي و”الطربوش”، لكن المسلم به أن “البكالوريا” الآن أصبحت نظاما دوليا يعتمد علي شمولية التعليم وتنمية المهارات الشخصية والاجتماعية وتعزيز المسؤولية والقيادة والتفاعل مع القضايا المجتمعية، ويتم تطبيقه في أكثر من 150 دولة حول العالم.
ومابين الأمس واليوم يدور جدل واسع في الشارع المصري حول
الفلسفة الجديدة لنظام الثانوية العامة “البكالوريا”.. ومدي قدرته علي التخلص من مثالب النظام التعليمي والقضاء على ظاهرة القرارات المتسرعة وغير المدروسة، والتي تأتي بصحبة كل وزير جديد لوزارة التربية والتعليم، وربما تسهم في القضاء علي “شبح” الثانوية المفزع !.
ولسنوات عديدة ظلت الثانوية العامة كابوسا مفزعا ومحطة فارقة لكل أبناء أرض الكنانة وأسرهم، الذين كانوا علي موعد سنوي من القلق والتوتر والسهر والاضطراب انتظارا لنظام الامتحانات وتوقيتاتها ونتائجها !.
ومما لا يقبل الجدل والمراء أن نظام الثانوية العامة في مصر أمسي في وضعية حتمية حرجة تتطلب التطوير والتحديث الشامل وفقا للإتجاهات العالمية وبما يواكب المستجدات العصرية والمتغيرات المتسارعة ونظم التعليم الدولية المتطورة والفاعلة، التي تعتمد علي استراتيجيات التعليم الابداعي والابتكاري التي تنمي قدرات العقل وتوظف المهارات الخاصة ونظريات الذكاءات المتعددة.
وووفقا لمعطيات الواقع مدعومة برؤي المختصين، فخلال السنوات الأخيرة وبعد محاولات مضنية ومتعددة لتغيير نظم التقييم والاختبارات وأساليب وآليات التدريس فإن مردود ونتائج العملية التعليمية والتربوية خلال السنوات المنصرمة لم يحقق المستهدف، وظهرت عورات هذه التوجه وسلبياته، بمجرد إلتحاق هؤلاء الطلاب بالمراحل الأولي للجامعة، حيث كشفت نتائج السنوات الأولي وخاصة بكليات القمة الحصاد المر لهذا النظام بشقيه التقليدي وما تم تحديثه خلال السنوات الأخيرة!.
وزاد المشهد تعقيدا، حين احترف أباطرة الدروس الخصوصية طرقا وأساليب ملتوية لتحقيق النجاح والتفوق بدون جهد كبير، وهو ما انعكس سلبا علي نواتج العملية التعليمية في هذه المرحلة الفيصلية، التي تمهد وتؤهل للمرحلة الجامعية وما بعدها.
ومن مساوئ النظام القديم التي لا يختلف عليها اثنان الاهتمام بفكرة قياس نواتج التعلم المعرفية وإهمال النواتج الإبداعية والمهارية، علاوة علي الضغوط النفسية المستمرة لدي طلاب الثانوية وأسرهم المرتبطة بفكرة حشو المعلومات والاعتماد بصفة أساسية على كبسولات الدروس الخصوصية، مما أدى لهجر الطلاب المدارس، إضافة إلي معاناة الكثير من الطلاب أثناء التفكير في اتخاذ القرار السليم لإختيار الوجهة العلمية أو الأدبية، والحيرة بين ضغوط الأسرة والوجاهة الاجتماعية، دون وعي وإدراك ودراسة شاملة لقدراتهم وطبيعة الجدارات التي تؤهلهم للدراسة الجامعية وتضمن لهم النجاح والتفوق وتعزيز آفاق وفرص التدريب والعمل وتطوير المهارات الحياتية والمهنية.
ومع كافة النجاحات والإنجازات التي حققتها الدولة المصرية في ثيابها الجديدة، فقد آن الأوان أن ينطلق التعليم بالمرحلة الثانوية إلي آفاق جديدة، وأن يرتدي ثياب التطوير والتحديث والإبداع علي نفس وتيرة التخطيط لتطوير المراحل الأولي من التعليم التمهيدي والأساسي.
ووفقا لما أعلنته وزارة التعليم فإن فلسفة شهادة البكالوريا المصرية “بديل الثانوية العامة” تعتمد على تنمية المهارات الفكرية والنقدية بديلاً عن الحفظ والتلقين، والتعلم متعدد التخصصات بدمج المواد العلمية والأدبية والفنية، والتقييم المستمر وتقسيم المواد على عامين على الأقل، هذا بالإضافة إلى تعزيز الاعتراف الدولي والفرص المتعددة من خلال جلستي امتحان سنوياً.
وتتكون من مرحلتين هما المرحلة التمهيدية “الصف الأول الثانوي”، والمرحلة الرئيسية “الصفين الثاني والثالث الثانوي”.
وتتضمن المرحلة التمهيدية “الصف الأول الثانوي”، عددا من المواد الأساسية التي تدخل في المجموع الكلي، وتشمل مواد التربية الدينية واللغة العربية والتاريخ المصري والرياضيات والعلوم المتكاملة والفلسفة والمنطق واللغة الأجنبية الأولي، بالإضافة إلى مواد خارج المجموع تشمل اللغة الأجنبية الثانية والبرمجة وعلوم الحاسب.
وفيما يخص مواد المرحلة الرئيسية “الصف الثاني الثانوي”، فالمواد الأساسية في جميع التخصصات تتضمن مواد اللغة العربية والتاريخ المصري واللغة الأجنبية الأولي، بالإضافة إلى المواد التخصصية “يختار منها الطالب مادة واحدة” وهي الطب وعلوم الحياة تشمل “الرياضيات- الفيزياء”، والهندسة وعلوم الحاسب تشمل “الكيمياء ـ البرمجة”، والأعمال تشمل “محاسبةـ إدارة أعمال”، والآداب والفنون تشمل (علم نفس ـ لغة أجنبية ثانية”.
وفي إطار مقترح “البكالوريا “، وبالنسبة لمواد المرحلة الرئيسية “الصف الثالث الثانوي”، فإنها تتضمن في المواد الأساسية لجميع التخصصات مادة التربية الدينية، بالإضافة إلى المواد التخصصية وهي الطب وعلوم الحياة تشمل “الأحياء مستوي رفيع” و”الكيمياء مستوي رفيع”، والهندسة وعلوم الحساب تشمل “الرياضيات مستوي رفيع” و”الفيزياء مستوي رفيع”، والأعمال تشمل “الاقتصاد مستوي رفيع” “الرياضيات”، والآداب والفنون تشمل “جغرافيا مستوي رفيع” و”إحصاء”.
أما فيما يخص المواد الإضافية فإنه يجوز للطالب دراسة مواد إضافية في أي مستوي في حالة رغبته في تعدد المسارات وذلك بعد انتهاء المسار الأساسي، وأن يكون الحد الأقصى لعدد سنوات الدراسة للمرحلة الرئيسية 4 سنوات بخلاف الصف الأول الثانوي.
ومابين التفاؤل والتوجس الحذر حول المستقبل حظي مقترح “البكالوريا” الجديدة بجدل واسع ومناقشات عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وطالب البعض بضرورة الدراسة الشاملة لهذا المقترح من كافة أبعاده، وإتاحة المزيد من الوقت والدراسة، والتفكير مليا في تحديد ماهية المواد الأساسية للمجموعة العلمية والأدبية ويري البعض أن النظام مع كونه متميزا ويساير اتجاهات النظم العالمية، لكنه لا يناسب الظروف الاقتصادية في الدول النامية.
وتساءل آخرون ..هل هناك فرص عمل للخريجين بعد الانتهاء من “البكالوريا” فقط ، سواء في مصر أو في الخارج؟.. وهل هناك حرف مهنية لمن يريد أن يكتفي بـ “البكالوريا” كما هو الحال في أوروبا؟!.
وطرح آخرون استفهامات حول هل سيتم معادلة شهادة “البكالوريا” بالشهادات الدولية المعتمدة التي تؤهل للالتحاق بالمعاهد والجامعات الأجنبية الرسمية، والمفتوحة؟!
وثمنت تقارير عديدة مميزات نظام البكالوريا الجديد ومنها: ” تنمية المهارات الفكرية والنقدية بديلا عن الحفظ والتلقين، التعلم متعدد التخصصات بدمج المواد العلمية والأدبية والفنية، التقييم المستمر وتقسيم المواد على عامين على الأقل، والاعتراف الدولي والفرص المتعددة من خلال جلستي امتحان سنويا.
ومما يبشر أننا نسير في الاتجاه الصحيح أن معظم خبراء وأساتذة التربية يرون أن نظام “البكالوريا” الجديد خطوة مهمة لتصحيح المسار نحو بيئة تعليمية فعالة وأكثر ابداعا وأقل توترا.. وربما يكون البداية للقضاء التدريجي علي “مافيا” الدروس الخصوصية مع الدراسة الجادة لتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي فائق التطور لمساعدة الطلاب علي مزيد من الفهم والاستيعاب والتدريب علي النظم الحديثة للاختبارات وأساليب التقويم التربوي من أجل إعداد جيل متميز علميا ومهنيا.
وضمن رؤي أساتذة الجامعة والخبراء المؤيدة لنظام ” البكالوريا ” المصرية الجديدة قال د.عصام عبدالقادر، أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس بكلية التربية للبنين جامعة الأزهر، إن نظام البكالوريا يتلافى سلبيات النظام الحالي للتعليم الثانوي؛ حيث يقدم مناهج تعليمية متكاملة تقوم أنشطتها التعليمية على فلسفة البحث والاستقصاء وتنمية المهارات النوعية وصقل الجانب الوجداني لدى المتعلم بمستوياته المختلفة؛ كي يصبح قادرا على صناعة واتخاذ قراره المستقبلي الخاص بالمرحلة التالية بعد شهادة البكالوريا، وهنا بالإمكان التخلص من شبح التحصيل في مستوياته الدنيا؛ لنرتقي بمستويات التعلم ونركز على مهارات التفكير العليا.
وأوضح أن النظام المقترح يسمح للطالب بأن يختار من المقررات الدراسية ما يتناسب مع أسلوب تفكيره عبر تحديده للمواد التخصصية بالصفين الثاني والثالث بمرحلة البكالوريا وهو مطمئن، لا ينتابه الشك أو التضليل، بل يختار وفق مهاراته وشغفه وحب الاستطلاع لديه وميوله العلمية؛ ومن ثم نضمن تفوقه وتقدمه التعليمي بصورة كبيرة.
كما يعظم من فرصة التحاق المتعلم بالمرحلة التالية دون قلقٍ أو عناءٍ كبير من قبل الطالب أو معاناة أسرية، ودون ضغوطاتٍ مريرة؛ فلن يكون هناك زخمٌ حيال مجموع يؤهل الطالب لمقعده بكلية ما؛ فقد بات الأمر مرهونا بمستوى حقيقي له يجعله في المكان المناسب لمستواه المهني والأكاديمي، وهذا ما يتسق مع نظم التعليم الدولية المتقدمة.
ولفت د.عبدالقادر إلي أنه خلال تصميم المناهج الدراسية، فيجب مراعاة ما تتضمنه من أهداف ومحتوى وأنشطة بأنواعها واستراتيجيات تدريسية وتقنيات مساعدة وأساليب تقويم مبتكرة أن تشتمل الخبرات التعليمية على ما يلبي احتياجات المتعلمين التعليمية والنفسية والمستقبلية، حيث تمهيد الطريق نحو الإبداع في ثيابه التنظيري والابتكار في إطاره العملي الوظيفي، وهنا نصف الخبرات بأنها متكاملة في مكونها ومكنونها؛ إذ تحقق أهدافا طال انتظارها في مخرجات التعليم المصري.
كما أشار إلى أن اعتمادنا الرئيس على تقويم الجانب المعرفي في مستويات محددة أمر يعتريه نقصان، و هذا الأمر لا يتناسب مع نظام “البكالوريا”، ومن ثم ينبغي أن ننظر إلى التقويم البديل متعدد الأدوات؛ لنستطيع من خلاله الحكم على واقع الخبرة لدى الطالب، ومن ثم نحدد له ما يصلح أن يقوم به من مهام في المستقبل، والرؤى الطموحة في تنمية ملكاته التي قد يتفرد بها؛ ليصل لمرحلة الابتكار.
وتابع : ومن ثم نطمح من خلال هذا النظام أن نقيس وظيفية المعرفة، ونعمل على الحد من مستويات التذكر لها؛ والأمر مرهونٌ ببقاء أثر التعلم الذي يضيف إلى مربع الخبرات المربية، ويصقل مهارات ووجدانيات المتعلم بصورةٍ تراكميةٍ، فما أشد حاجتنا لخلق مواطنٍ صالحٍ يمتلك مهارات القرن الحادي والعشرين وهو ما يتأتى إذا ما خططنا لذلك بعنايةٍ عبر مناهجنا التعليمية في هذا النظام، ومن ثم نضمن نجاحه المبهر الذي نرى أثره وثمرته اليانعة في مراحل التعليم المتقدمة أو التالية.
وأتصور أنه لا أحد في بلادنا يرفض فكرة تطوير التعليم بما يتوافق مع المعايير الدولية، لكن الأمر يتطلب المزيد من التهيئة النفسية والاجتماعية واختيار التوقيت الأمثل لكافة خطط التطوير واستثمار رؤي الخبراء والمفكرين وأساتذة الجامعات وكبار رموز أساتذة التربية والتعليم في مختلف التخصصات والإدارات التعليمية ومجالس الآباء.
وفيما يتعلق بـ” بكالوريا مصر” ،فيجب الاستقرار أولا على صيغة نهائية وتوافقية تطرحها الحكومة للحوار والنقاش المجتمعي، عبر مختلف روافده السياسية والإعلامية والبرلمانية قبل إقراره في صورته النهائية، وربما تكون البداية لتصحيح المسار التعليمي في بقية المراحل التعليمية.. والقادم أفضل بإذن الله.