ويتجدد اللقاء مع المعين الصافي لإبداعات وإطلالات أدباء ومواهب أبناء أرض الكنانة..
وقد أهدت الأديبة عزة نصر الدين بوابة الجمهورية والمساء قصتها القصر المهجور،ننشرها عبر هذه السطور..
🍂
القصر المهجور
بينما يسير في طريقه كالعادة ، وجدها هناك منزوية على نفسها تبكي؛ تلفت يمنة ويسرة لم ير أحدا سواها؛ من أين جاءت، وماذا تفعل هنا ؟! لا يدري؛ فكل ما يعلمه أن هذا الطريق لا يوجد أحد يمر به، ويعزو الأمر إلى ما يتناقله أهل هذه القرية؛ أن السبب هو أن هذا القصر مسكون، رغم أنه يومياً يمر عليه؛ بل ويدقق نظره فيه كالعادة، ولم يلاحظ شيء غريب مما قيل عنه ..
علا صوت نشيج بكاء تلك الطفلة، مما دفعه ليتجه نحوها متسائلاً..
ـ من أنتِ ؟! وما الذي أتى بكِ هنا ؟!
ـ انتظر جوابها لكنها لم تجبه؛ فبدا له أن يغير السؤال ..
ـ أخبريني ما يبكيكِ ؟!
هنا رفعت وجهها من بين كفيها،ناظرة إليه بعينين ذابلتين، ووجنتين محمرتين، وقد علا أرنبة أنفها حمرة بادية، وقد أخذت شفتاها لونا مائلا للون الرصاص قليلاً، وقد أرجع الأمر، لبرودة الطقس؛فهم فى منتصف فصل الشتاء بل أشد فصوله برودة، ولم لا وقد تناثر بعض رزاز الثلج على شعرها البندقي المتموج، الذي يغطي كامل ظهرها من الخلف، أفاقه جوابها الذي غلفته بسؤالها.
ـ لن تضحك علي، صحيح !
ـ لن أضحك .
ـ حسناً..أخبرك إذاً .
“إنها لتلك الطفلة التي تضحك بعفوية، وتفكر فى الأشياء ببراءة، تتعامل بتلقائية، مجنونة بعقلاني.
ـ مهلاً مهلاً عمن تتحدثين ؟!
أشارت بإصبعها تجاه شيء بعينه، وما أن تابع ببصره طرف إصبعها؛ حتى رست عينيه على نافذة فى الطابق الثاني،في ذاك القصر التي يقفان أمامه الآن، إن مما أثار دهشته؛ هو وجود تلك الفتاة داخله، تلك التي يراها لأول مرة هنا؛ كأنها انبثقت من العدم؛ أخذ يتابعها بعينه، وأيضاً يتابع تلك الطفلة التي تقف بجواره وهي تصفها؛ الغريب فى الأمر أن كل ما تقوله الطفلة، تقوم به تلك الفتاة التي يراها في النافذة؛ لوهلة ظن أن هذه النافذة ما هي إلا شاشة عرض، وأن الطفلة الماثلة بجواره، الناطقة على مسامعه، ما هي إلا مترجم فقط لما يرى أمامه..
استطردت الطفلة حديثها عنها قائلة :
“لم تتخل عن عادات الشتاء؛ كأن تمسك بالكوب الساخن بيديها لتستمد منه الدفء، تشعل الموقد الغازي لتدفئ يديها، قبل تدفئة الطعام ..
“أراها تضع قدميها بالشمس، قدماها فقط، وتنأىٰ بجسدها العلوي؛ لأنها تؤمن بأن شمس الشتاء، أضر بأشعتها من شمس الصيف، وحرقتها ..
“هي تلك التي تتجمد أطرافها بفعل البرودة، وترتعش أوصالها، و رغم ذلك؛ تكره ارتداء الملابس الثقيلة ..
“أقصىٰ ما لديها فعله، هو أن تدفع بجسدها أسفل الغطاء، تنتظر الدفء أن يزورها.
قطع حديثها مستفسرا :
ـ حسناً، وماذا بغير هذا الفصل ؟ أي كيف هي فى الفصول الأخرىٰ ؟
ـ أكملت فى هدوء :
“خريفية الطباع، والهوىٖ، والعشق، گذاكرتها تماما، تراها تسير بأسرع ما لديها، وفجأة تستوقفها ذاكرتها، إنها تود جلب شيء ما، من ذاك الشارع الذي سبق هذا؛ گأن تدخل دكانا لأحدهم، لكنها بمجرد أن تدلفه بقدميها، تضطر للخروج خجلىٰ من نفسها؛ لنسيانها ما كانت تود جلبه، تعشق السماء عندما تبتلع الشمس بجوفها؛ فلاتبدي منها إلا ظلها،لقد أخذت بطولة المشهد تلك الغيوم المتراصة كقطع اللؤلؤ .
ترامى بنظره للسماء، ليذهل مما رأى؛ فقد تراءت له السماء بوصفها الذي وصفته للتو، هم ليسألها مستفسراً عما حدث؛ فسماء اليوم حينما خرج من منزله، كانت مشرقه بل فى مستهل حديثهما كانت السماء صافية؛ فمن أين أتت تلك الغيوم ؟ ..منع تساؤله نظرة منها بحزم، بل و استطاردها دون توقف :
“تهوىٰ القمر بدراً، تستهويها الفناجين الصينية، تعشق التفاصيل التي لا تذكر، تبحث بنفسها فى اللامرئي ،تجوب بخيالها، فى اللامحدود والمنفي، إجتماعية حد العزلة، معقدة رغم بساطتها،غامضة بقدر وضوحها وصراحتها، أكبر كاذبة تخبرك الحقيقة، بارعة في التمثيل بواقعية تامة، جسد شابة، بعقلية عجوز شاخ قلبها على عتبات إدمان الحقائق المرة، روح تعشق كل ما هو قديم أزلي؛ گأنها روح أجيال مضت، قد تجسدت بهيئة هذا الجيل، الذي تنبذ غالب ما فيه بشدة؛ فقد يجذب روحها ذاك المبنىٰ الأثري، أو تلك الأرضية التي تبرز مدىٰ دقة ذاك العامل، الذي تفانىٰ فى إخراجها؛ گقطعة ماسية ،تراها وقد علقت عيناها فى ذاك السقف المرتفع، بتلك العروق الخشبية، التي شُكِلَت بهندسة رائعة؛ لتحمل فوقها طبقات أخرىٰ..قطع حديثها هنا بسؤاله دون أن يدري :
“كيف حدث هذا ؟ كيف تحول سقف غرفتها فجأة لعروق خشبية ؟
وقبل أن يلتف برأسه لتلك الطفلة، استطردت حديثها :
“يستهويها أيضا ذاك الطراز الأوروبي الكلاسيكي الصنع؛ عن ذاك الدفء الروحي، الذي تستشعره فى طيات ذاك البيت الآيل للسقوط لقدمه؛ گأنفاس من كانوا يحيون فيه، تخترق عظامها؛ فترديها قتيلة الإشتياق والحنين، لأشياء لم تعايشها، لأناس لم تقابلهم؛ لكن روحها ألفت أرواحهم، گأنهم أحياء داخلها فقط، وليسوا أناس موتىٰ .
أفاقته كلمة موتى، ليستشعر وجودهم حوله؛ فقد أظلم المكان، كيف لم ينتبه لتلك السحب التي غطت السماء، بلونها الأسود ، كيف ومتى تحولت لهذا اللون القاتم ؟ لا يدري..
كتم أنفاسه فهم يقتربون منه فى حلقة دائرية، لقد تخشب جسده، وقد دق له وتد بالأرض؛ فلا يستطيع تحريكهما، فقط جاهد ليلتفت عن يساره؛ فرآها مازالت تشير بإصبعها نحو النافذة ،لكن عيونها مسلطة عليه، هي ذاتها العيون الذابلة من كثرة البكاء، والوجنتين الورديتين، أرنبة الأنف الحمراء كذلك، والشفاه التي تحولت بكاملها للون الأسود؛ ليس هذا الذي جمد الدم فى عروقه، بل كيف أضحت تلك الفتاة التي يراها من خلال النافذة بجواره ؟ بل أين اختفت تلك الطفلة ؟ أم أنها هي ذاتهاوقبل أن يكمل تساؤله سقط مغشيا عليه، ليفيق بعدها كي يدرك بعد برهة لا يعلم قدرها، ليجد نفسه داخل القصر المهجور، تحديدا فى البهو..
الغريب أن القصر بالفعل مهجور كما يبدو من الخارج، لكن ما جعل الرعب يدب فى قلبه أكثر؛ فأكثر تلك الخطوات التي يتحسسها بسمعه تقترب منه شيء فشيء، حتى أنه يكاد يقسم انه يستشعر حرارة أنفاسهم ..من هم؟ وكيف هي ملامحهم؛ فالظلام دامس، إن مد يده لا يكاد يراها؛ فتلك هي بالفعل، حالها كحال الفتن، من استشرفها أقبلت عليه، كما فعل هو مع القصر؛ فلم يمضي يوم دون أن يتسائل حين مروره بالقصر:”ما قصتك أيها القصر؟!
قد بدا له الآن وأخيرا، أن القصر سيجيبه على تساؤله الدائم !!..