بقلم ✍️ شحاته زكريا
(باحث متخصص في الشؤون الاقتصادية والسياسية)
في عالم يموج بالتغيرات والتحولات يبدو أن الصراع الأساسي الذي تواجهه المجتمعات ليس صراعا على الموارد أو السلطة بقدر ما هو صراع على الهوية.
الهوية التي تتشكل على مر العصور لتكون انعكاسا لتاريخ الشعوب وثقافتها أصبحت اليوم في مهب رياح العولمة.
تلك الرياح التي تأتي بأفكار جديدة وأطر مختلفة تُغرِق الأفراد والمجتمعات في دوامة من التناقضات، بين التمسك بالأصول والانجراف وراء الحداثة.
لم يعد السؤال يدور حول ما إذا كنا بحاجة للحفاظ على هويتنا أم لا، بل أصبح عن الكيفية التي يمكننا من خلالها تحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة دون أن نفقد أحدهما. فالأصالة ليست قيدا يكبلنا، بل هي الجذور التي تمنحنا الثبات والمعاصرة ليست تهديدا دائما ، بل قد تكون الجسر الذي نعبر من خلاله إلى مستقبل أكثر إشراقًا.
إن العالم الذي نعيشه اليوم يعكس أزمة هوية متفاقمة؛ إذ تتعرض الثقافات المحلية لضغوط هائلة نتيجة تداخل الثقافات العالمية.
ولعل التكنولوجيا الرقمية هي أكبر مسرح لهذا الصراع حيث تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحات للتنافس بين الثقافات وساحة لاستعراض أفكار وانتماءات بعضها يحاول فرض نفسه كبديل عن الآخر.
لكن الهوية ليست قطعة أثرية يُخشى عليها من التلف، وليست أيضا سلاحا نستخدمه في معارك غير متكافئة، بل هي ديناميكية وحيوية. إنها كالنهر تستمد قوتها من منابعها وتواصل تدفقها لتصنع لنفسها مجرى جديدا حين تقتضي الحاجة.
إنها تعبير عن الذات الإنسانية في أبهى صورها، تعكس التفاعل بين الإنسان وبيئته وتاريخه وتطلعاته المستقبلية.
المعضلة الحقيقية تكمن في أن بعض المجتمعات تنظر إلى هويتها على أنها حاجز يمنعها من التقدم فتبدأ عملية التفكيك الذاتي بحثا عن أشكال جديدة من الانتماء، بينما على الجانب الآخر، هناك من يرفع لواء الهوية ليغلق كل باب أمام التغيير متجاهلا أن الهوية نفسها نتاج لتفاعل مستمر بين الماضي والحاضر.
ما تحتاجه المجتمعات اليوم هو إدراك أن الحفاظ على الهوية لا يعني الجمود وأن التغيير لا يعني التنازل. فالقوة الحقيقية تكمن في القدرة على التكيف دون الانسلاخ، وفي استيعاب الجديد دون التضحية بالجذور. الهوية هي المزيج الذي يجعل من الفرد جزءا لا يتجزأ من مجتمعه، ويمنحه شعورا بالانتماء.
في ظل هذا التغير المستمر تصبح التربية والتعليم الوسيلة الأهم في بناء وعي قادر على استيعاب الهوية بمعناها العميق وليس في قوالبها السطحية. فالهوية ليست شعارات ولا شعائر فقط، بل هي قيم ومبادئ تتجسد في السلوك الفردي والجماعي.
إنها المنظومة الأخلاقية التي تصوغ طريقة تعاملنا مع العالم ومع أنفسنا.
علينا أن ندرك أن هويتنا ليست في خطر لأنها ضعيفة بل لأننا أحيانا نسيء فهمها.
إن ما نحتاجه اليوم هو إيمان عميق بأن الهوية ليست قيودا بل أجنحة، وأنها ليست حالة ثابتة بل رحلة مستمرة، وبينما نبحث عن مكان لنا في عالم متغير، علينا أن نتذكر أن كل خطوة نخطوها للأمام لا تعني التخلي عن الماضي، بل هي امتداد له.
الهوية الحقيقية ليست تلك التي نرتديها كقناع في المناسبات بل هي التي تظهر في أفعالنا اليومية في قيمنا التي نتمسك بها وفي الطريقة التي نرى بها العالم من حولنا.
وبينما تواجه المجتمعات ضغوط العولمة وتحديات التغير، فإنها تملك فرصة فريدة لتجعل من هويتها مصدر قوتها، لا نقطة ضعفها.
في النهاية إن الصراع على الهوية ليس معركة بيننا وبين الآخر بل هو اختبار لقدرتنا على فهم أنفسنا وتحقيق التوازن في عالم لا يتوقف عن التغيير.
الهوية هي التي تمنحنا القدرة على الوقوف بثبات وسط الأمواج العاتية وهي التي تمنحنا القوة لنبحر بثقة نحو المستقبل.