ويتجدد اللقاء مع إبداعات أدباء ومواهب أبناء أرض الكنانة.. وضيفنا في هذه السطور الكاتب الأديب مدحت الخطيب “المحامي”، والذي أهدي بوابة “الجمهورية والمساء”أون لاين غيضا جديدا من فيض ابداعاته في ثياب القصة القصيرة وسمها بعنوان “غرفة جدتي”..
🍂
غرفة جدتي
كانت وما زالت جميلة منذ مولدها، بل ولا تزال فائقة الجمال كوالدتها ذات الأصول الأوروبية، ولم يكن جمال شكلها هو السبب الوحيد في هذا الدلال الذي تعيشه في كنف والدها، ولكنها كانت ولا تزال تتمتع بالعديد والعديد من المزايا والمواصفات التي قل أن تجتمع في طفلة واحدة بعمرها، فهي الحنان لوالدها، وهي الحياة التي يعيشها بحلوها وخضرتها ونضرتها.
واليوم .. ليس كأي يوم سبقه، إنه يوم الفرحة والسرور، ومولد الجمال والنور، إنه اليوم الذي فيه ابتسمت له الحياة لأول مرة، وأهداه ربه فيه تلك الهدية الجميلة التي تقر برؤياها عيناه، وتطرب بصوتها أذناه، وينشرح بها صدره، ويرتاح بقربها حاله وباله، إنه عيد مولدها الميمون، ومن حق والدها أن يحتفي ويحتفل بعيد مولدها الخامس، حيث أنارت بمولدها دنياه وجعلتها جنة الله في عينيه.
ولم يذق منذ يومين طعم النوم الهانيء الجميل، وإن كانت تأخذه سنة من النوم بين الحين والحين، إذ كان مشغولا بتزيين البيت وتهيئته وإعداده للاحتفال بعيد مولدها الذي سيحضره الأهل والأقارب والأصدقاء والمحبون لها وله.
وقد كانت هي أيضا سعيدة بعيد مولدها، وأكثر ما كان يسعدها ويثلج صدرها هو اهتمام والدها بها وبعيدها، ولم لا تفرح له وبفرحته وهو كل شيء في حياتها؟، نعم كل شيء في حياتها، فمنذ بدأت تعي الأحداث والأشخاص حولها، وهي لا تعرف حضنا يحويها ويحميها سوى صدره الدافيء، ولا تعرف بلسما شافيا يداوي لها جرحا سوى قبلة شفتيه على خديها ذواتي البشرة الرقيقة البيضاء الناعمة.
وبدأ البيت الصغير يستقبل الضيوف الذين جاءوا من كل حدب وصوب لمشاركتهما فرحتهما بعيد الميلاد الجميل السعيد، وبدأ أصدقاؤها وزملاؤها ومحبوها يلتفون حولها ويقدمون لها هداياهم ذوات القدر والقيمة، ففرحت بهداياهم أيما فرح، وسُرَّت بها السرور كله، وكانت مع كل هدية تجري على والدها وتخبره عن ذاك الذي أهداها إياها، ثم تسأله عن رأيه في الهدية، فيبتسم لها ابتسامة جميلة تشعرها بالمحبة والسعادة والقبول، ثم يطلب منها استطلاع رأي والدتها، فهي الأكثر فهما وخبرة واطلاعا في عالم الهدايا الحديثة.
ما إن يطلب والدها استطلاع رأي والدتها، حتى تنطلق إلى غرفة والدتها، ثم تعود إلى والدها، فيسألها قائلا:
ـ هل سألتِ والدتك عن رأيها في الهدية؟.
ـ نعم .. سألتها.
ـ فبماذا أجابت؟.
ـ لم تجبني.
ـ لماذا؟.
ـ كانت تصلي.
والتف الجميع حول المائدة البيضاوية التي تزينت بكعكة التورتة المتعددة الطبقات، ووقفت الطفلة الجميلة أمامها تتوسط الأهل والأقارب والأصدقاء، وارتفعت أصواتهم بأغنية عيد الميلاد [هابي بيرثي تويو] ثم أعقبوها بالنفخ في الشموع الموقدة التي غرزوها في الكعكة حتى أطفأوا الخمس الشمعات، وعندئذ أخذها والدها فضمها إلى صدره، ولثم خديها بقبلتين، وتمنى لها السعادة والعمر الطويل، ثم قدم لها هديته.
لم تنتظر مطلب والدها، فهي تعرف كل المعرفة أنه سيطلب منها استطلاع رأي والدتها في هديته لها، وتعرف أيضا أنه سيطلب منها استلام هدية والدتها لها، فانطلقت كالريح المرسلة، ثم عادت وهي تحمل هدية والدتها المغلفة، فلما سألها إن كانت استطلعت رأي والدتها، أجابته بالنفي، وقالت:
ـ كانت تصلي.
وكما امتلأت الشقة بالفرحة والسعادة في عيد ميلادها الخامس، وجاءها الأهل والأقارب والأصدقاء لتهنئتها، امتلأت مرة أخرى بهم بعد عدة أعوام، لتهنئتها على التخرج من الجامعة وحصولها على ليسانس الآداب قسم اجتماع، وكلما قدم لها أحد المهنئين هديته، جرت على والدها لتريه الهدية، وتستطلع رأيه فيها، فيبتسم لها بذات ابتسامته الجميلة التي تشعرها بالمحبة والسعادة والقبول، ثم يطلب منها استطلاع رأي والدتها، فهي الأكثر فهما وخبرة واطلاعا في عالم الهدايا الحديثة.
وتهرع كما لو كانت لا تزال طفلة صغيرة إلى غرفة والدتها لتستطلع رأيها في هداياها، ثم تعود ليسألها والدها:
ـ هل سألتِ والدتك عن رأيها في الهدية؟.
ـ نعم .. سألتها.
ـ فبماذا أجابت؟.
ـ لم تجبني.
ـ لماذا؟.
ـ كانت تصلي.
السؤال هو ذات السؤال، والجواب هو ذات الجواب، ولم يتغير هذا، ولم يتغير ذاك، رغم تغير الزمان، وتغير الأحداث، بل إنها سألت والدها عن رأيه في الهدايا التي أهديت إليها بمناسبة زفافها، فكانت ذات الابتسامة، وكان ذات الجواب، وكان ذات الدخول على والدتها في غرفتها لتستطلع رأيها، وكان ذات الحوار.
واليوم .. لم يكن كأي يوم، فهو اليوم الذي يوافق العيد الثامن لميلاد ولدها [كريم]، وجاء المهنئون، وكلما تقدم أحدهم بهديته، استلمها كريم منه بابتسامة وفرحة، لينطلق بها إلى والدته ليريها الهدية ويستطلع رأيها، فكانت تبتسم له ابتسامة تسعده وتشرح صدره، ثم تطلب منه استطلاع رأي جدته، فهي الأكثر فهما وخبرة واطلاعا في عالم الهدايا الحديثة، فينطلق إلى غرفة جدته، ثم يعود إلى والدته، فتسأله قائلة:
ـ هل سألت جدتك عن رأيها في الهدية؟.
ـ نعم .. سألتها.
ـ فبماذا أجابت؟.
ـ لم تجبني.
ـ لماذا؟.
ـ كانت تصلي.
يا الله .. من ذاك الذي علمك يا ولدي ذات إجابة والدتك؟.
واليوم .. تضمه أمه إلى صدرها، وتلثم خديه بقبلتين، ثم تقدم له هديتها، فيرد عليها بقبلتين، ثم ينطلق إلى غرفة جدته ليريها هدية والدته إليه، ويستطلع رأيها في هديته، وليستلم هديته من جدته، ليعود وبين يديه هدية والدته وهدية جدته المغلفة، ويخبر أمه أنه لم يتمكن من استطلاع رأي جدته، لأنها كانت تصلي ولم تجبه.
ولما انتهى الاحتفال الجميل، وانصرف المهنئون والمباركون، اتجه كريم إلى والديه، فقبل أيديهما، ثم استدار باتجاه غرفته، فاستوقفه والده وسأله:
ـ هل أعجبتك هدية جدك؟.
ـ وأين هي؟.
ـ في جيب جلبابه الأبيض المعلق على المشجب خلف باب غرفة جدتك.
غيَّر اتجاهه إلى غرفة جدته، ونظر إليها وكأنه يستأذنها، ثم أدخل يده في جيب جلباب جده، فوجد الهدية التي اشتراها والده ووضعها في جيب جلباب الجد، فلما خرج قابلته أمه بابتسامتها المعهودة، ثم سألته:
ـ هل استأذنت جدتك قبل أن تأخذ هديتك من جيب جلباب جدك؟.
ـ نعم .. استأذنتها.
ـ وهل أذنت لك؟.
ـ لم تجبني.
ـ لماذا؟.
ـ كانت تصلي.
نعم .. كانت تصلي .. وقابلت ربها وهي ساجدة .. فخلدها زوجها بنحت تمثال لها وهي ساجدة لربها داخل غرفتها التي ماتت فيها، ولم ينس البيت الطاهر هذا الرجل الذي أحسن تربيتهم، فعلقوا ملابسه على المشجب، ولم يفرطوا فيها، وفي المناسبات السعيدة والأعياد المباركة، يضعون النقود والهدايا في جيوب ملابسه، ليذهب كريم وشقيقته إليه، فيأخذان الهدايا والعيديات منه، وكأنه لا يزال حيا بينهم.