ذكرياتي في رمضان 🌙
ومع النفحات الروحية العطره لشهر رمضان المبارك يفوح شذا عطر الإيمان وتحلو الذكريات الجميلة لشهر الصوم .. وعبر بوابة الجمهورية أون لاين عبر نافذة “المساء” يتجدد اللقاء كل يوم مع رمز من رموز أبناء مصرنا الغالية من العلماء والمفكرين والأدباء والإعلاميين وأساتذة الجامعات ورموز العمل الإجتماعي والسياسي.
🌄
»» المنازل تتحول إلى واحات من الطمأنينة، وترتقي الأرواح في رحاب الإيمان
بقلم ✍️ أ.د.مها عبد القادر
(أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر)
رمضان هو شهر الرحمة والمغفرة، وهو أيضًا شهر تتجلى فيه أسمى معاني التلاحم الأسري، حيث تفيض القلوب بالمحبة، وتعكس روح الإخاء في كل تفاصيل الحياة اليومية، إنه الشهر الذي يجمع العائلات على موائد الإفطار، ليمنح كل يوم طابعا خاصا يحمل معاني الحب والمشاركة، ويتحول إعداد الإفطار إلى مشهد دافئ يفيض بالمودة، حيث يتعاون أفراد العائلة في تحضير الطعام، ويحرص الآباء على ترسيخ قيم العطاء والتراحم، فتترسخ الروابط الأسرية وتزداد قوة.
ومع انطلاق أذان المغرب، تسكن القلوب خشوعًا، وتُمد الأيدي إلى التمر والماء اقتداءً بسنة النبي ﷺ، ثم تُقام صلاة المغرب في أجواء تعبق بالسكون والطمأنينة، وتحافظ الكثير من الأسر على هذه العادة، فتُنشئ الأبناء على أداء الصلاة في وقتها، إدراكًا لأهميتها في بناء شخصية متوازنة روحانيًا، وبعد الإفطار تتأهب العائلة لصلاة التراويح، حيث تتزين المساجد بالمصلين في مشهد إيماني فريد يجسد روح رمضان العظيمة، وفي هذه اللحظات يشعر الإنسان بأن العبادة ليست مجرد التزام، بل هي موسم للطاعات وفرصة للتقرب إلى الله، حيث يملأ الذكر والخشوع القلوب، ويزداد الإيمان عمقا ورسوخا.
وبعد التراويح، تتلألأ البيوت بنور القرآن، حيث تجتمع العائلات حول المصاحف، يتلون آيات الله ويتدبرون معانيها، فتتحول المنازل إلى واحات من الطمأنينة، وترتقي الأرواح في رحاب الإيمان، وتغدو ليالي رمضان فرصةً ذهبية لتنمية الوعي الروحاني، حيث تنقش هذه اللحظات في الذاكرة، وتظل القيم التي ترسخها حاضرة في النفوس طوال العام فلا يقتصر رمضان على الامتناع عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة للتزكية والتقوى وفرصة لصياغة أجمل الذكريات العائلية التي تُحفر في القلوب.
وفي أرض الكنانة، تتجلى أروع صور التلاحم والمودة، حيث تزدان الليالي الرمضانية بروحانيتها الفريدة، فتصدح المآذن بالذكر وتفوح رائحة الخير في الشوارع والبيوت ويظل صوت المسحراتي رمزا خالدا يوقظ القلوب قبل الأجساد، وتحتضن مصر بحضارتها العريقة وبطابعها الأصيل شهر رمضان فتظل قبلةً للروح الساعية إلى السكينة حيث يتجدد الإيمان وتتعانق القلوب في لحظات مباركة، تحمل معها عبق الماضي وروعة الحاضر، ليبقى رمضان في مصر ليس مجرد شهر، بل حياة نابضة بالخير والعطاء.
ومن بين الذكريات العالقة في الأذهان، يبرز رمضان الذي حل في عام الجائحة، حيث لم يكن مجرد شهر عبادة، بل امتحانًا للصبر والتكاتف الأسري، اجتاح الفيروس أفراد العائلة واحدًا تلو الآخر، وتبدلت أجواء البهجة والسكينة إلى حالة من القلق والخوف، وغابت التجمعات العائلية وأصبحت مائدة الإفطار شبه خالية، حيث كان الجميع يواجه المرض بصمت، يكتفي ببضع تمرات وحساء دافئ، ثم يعود إلى فراشه منهكًا، لا طاقة لديه حتى لتبادل الأحاديث الرمضانية.
وتجلت في خضم هذه المحنة أسمى معاني التراحم، حيث تكاتف أفراد العائلة لمساندة بعضهم البعض، وكان من يملك قوةً أكبر يعين غيره ومن يتعافى جزئيًا يبذل جهده لرعاية المصابين، ومع مرور الأيام بدأت العائلة تستعيد عافيتها، وكان أول لقاء حقيقي حول مائدة الإفطار بمثابة ولادة جديدة، حيث استعاد الجميع حاسة التذوق، وشعروا بقيمة الصحة كأعظم نعم الله؛ لقد كان رمضان ذلك العام درسًا عميقًا في الصبر، والتكاتف، والامتنان، واليقين بأن الله لا يضيع عباده.
وكما مرّ رمضان على الأفراد بثقل الجائحة، مرت به مصر بأجواء مختلفة تمامًا، حيث تبدلت العادات واختفت التجمعات الكبرى وأُغلقت المساجد لفترة وافتقدت الشوارع ازدحامها المعتاد قبيل الإفطار ورغم ذلك، بقيت روح الشهر الكريم نابضة في القلوب، فامتلأت المنازل بالدعاء والذكر واستمر الخير رغم التحديات، وأثبت المصريون أن التكافل أقوى من أي ظرف، وأن رمضان في مصر ليس مجرد طقوس، بل حالة إيمانية وإنسانية متجذرة تتحدى الأزمات وتبقى مضيئة رغم المحن.
اللهم احفظ مصر وأهلها، وبارك في أرضها الطيبة، واجعلها دائمًا موطنًا للخير والأمان، ومصدرًا للنور والإيمان، وأعد علينا رمضان في حالٍ أفضل، تملؤه البهجة والطمأنينة، وتظل فيه مصر عامرةً بذكرك، متألقةً بنور الإيمان.