بقلم ✍️ : د. حنان سالم
(دكتوراة الفلسفة المعاصرة- جامعة العريش)
في خضم الأحداث المتسارعة والمتصارعة في آن واحد.. لا نحتاج لمقدمات لزخرف القول، ولا نحتاج توطئة لابد منها.. ولكن نحتاج للتوغل في صلب الموضوع وخطورة الموقف، والمأساة التي تهيمن علي العالم أجمع والشرق الأوسط بالأخص.
اضطرابات عالمية محيطة من كل ناحية، سلاسل من الحروب الدامية والمرعبة بيولوجية تارة، واقتصادية تارة آخرى، وأخيرا حرب تجارية وتهديدات نووية، قرارات واتفاقيات، ومعادلات صعبة تراهن علي استمرار المجتمعات واستقرارها.. فإلي أين نحن ذاهبون.. وما مصير الإنسانية.. وأين نجد السلام؟!
تحولات كبيرة تجري اليوم في الساحة الدولية هي مؤشرات على توسع رقعة الحرب والدمار ، في محاولة لإعادة تشكيل خريطة العالم بشكل عام، والشرق الأوسط بوجه خاص. ومعظم هذه الجهود ستؤدي على الأرجح إلى معاناة إنسانية لا تصدق..
وباستقراء التاريخ والاستفادة من أحداثه في استقراء الواقع، واستشراف المستقبل وأحداثه القريبة، إما للاستعداد لها أو محاولة تجنبها. نجد أننا نعيش حالة من اللايقين، تبرز معها المخاوف من تكرار سيناريوهات سبق للعالم أن عاشها في الماضي القريب في الحرب العالمية الأولي والثانية، ويؤذن بحرب عالمية جديدة، بل سلسلة من الحروب المتنقلة بين الدول والعابرة للقارات على شاكلة القذائف البالستية.
هذا ما يؤكد توقعات الفيلسوف الانجليزي “برتراند راسل “- الداعي للسلام- في أعقاب الحرب العالمية الثانية:” بأن الحرب الثالثة بدأتها روسيا، وستستمر لسنوات طويلة، ولن تنتهي إلا بغلبة قوة على أخرى”، وقد كان توقعاً منطقياً وتحليلا عقليا سليما.
وهانحن في قلب الحدث، ولم ننفك بعد من حرب روسيا علي أوكرانيا وما يعقبها من تضخم اقتصادي عالمي وإقليمي تستفيد منه أمريكا فحسب.. ” حرب وكالة” تساوم عليها كل الأطراف وتطلب الان جني الثمار – معادن وثروات أوكرانيا – تحت ذريعة إقرار السلام بين البلدين.
وعلي الجانب الآخر تتصارع – أمريكا- مع التنين الصيني على تايوان في شرق آسيا، تبريرا لحرب المنافسة الجيوستراتيجية المتصاعدة على جميع المستويات بين البلدين، وفرض تعريفة جمركية علي الواردات الصينية بنسبة بدأت من ١٢٥% ووصلت مع العناد والمناطحة إلي ١٤٥% فوري، في الوقت الذي ترفض فيه الصين هذه الحمائية المستغلة لتفرض بالند تعريفة أخري علي الوارادات الأمريكية بنفس القدر ١٤٥%.
وفي اعتقادي أننا عدنا لعهد الإتاوات التي كانت تفرض في عصر المماليك في النصف الثاني من “ق ١٨” دون وجه حق، ولكن في حلة ترامبية جديدة تحت ذريعة ” الحمائية الجمركية” والتي لم تسلم منها كل الدول بنسب مختلفة مرهونة بالتفاوض لمدة ٩٠ يوما علي مستوي العالم.
وعليه ينظر ترامب إلى العالم نظرة أنفة واستكبار، ويعدهم مستأنسين لا خطر منهم علي ملكه ومن يجرأ أو يرفض، يشعل نيران الحرب والدمار الشامل . وكأنه يقول ” أنا ربكم الأعلي “، فكل شيء ليس له ثمن الأمن والسلام، وحياة الأطفال والنساء الأحرار، الأرض، الحدود، وفي الحقيقة لا ثمن لشيء عند ترامب سوي الغطرسة الكاذبة والمكر الدفين والحماقة الطاغية أو المبالغ فيها كما وصفه “ريكس تيلرسون” ، أول وزير خارجية له، بأنه (أحمق) عندما يتعلق الأمر بفهم السياسة”.
ناهيك عن طغيان (إس رائ يل)في سلسلة من الحروب الدامية علي الشرق الأوسط في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن، ومازالت في سطوها على قطاع غزة منذ ١٨ شهرا وحتي يومنا هذا، في حربا لا يتخيلها عقل ولايتصورها قلب بشبكة من الحصار والضغط والتجويع والتعذيب، ومنع للمساعدات وتعطيل سلاسل الإمداد وإحداث شلل في واقع الحياة الفلسطينية، ومساواة الأرض بمن عليها، وإعدام الأحياء وحرق الصحفيين، ومحاولة تفريغ القضية نهائيا..!
فالأمر تعدي الحروب النازية ومحرقة هتلر، تخطي حتي الخيال، بل إن الأمر وصل إلي التطهير العرقي الذي لم يحدث حتي في عصر ” هولاكو “.. فأي إجرام هذا.. يا دعاة حقوق الإنسان ؟!
فالحرب العالمية الثالثة هي حرب القوي العظمي “حرب العمالقة”، والتي ستشتعل بمجرد إنهاء الحرب الباردة مع الدول الصغري الضعيفة أو “حروب الوكالة”، لينقضي النظام العالمي القائم ويحل محله نظام الصراع متعدد الأطراف مابين أمريكا وروسيا والتنين الصيني و تحالف أوربي مجهول.. ولا مكان للسلام بينها.
بيد أن العالم مازال يتأرجح تحت مظلة النظام العالمي القائم بالقيادة ” الترامبيةالجديدة ” التي تضم أمريكا وإسرائيل في وجه العالم كله. لكن من الواضح جدا على مدى الأعوام العشرين الماضية أن الديمقراطية دخلت في أزمة جديدة علي جميع المستويات.. ” أزمة الديمقراطية” الترامبية في أمريكا، والستالينية في روسيا، وايدلوجية التنين الصيني…إلخ، ففي كل مكان تتزايد فيه القومية تتزايد فيه حدة الأنظمة المناهضة للديمقراطية، فهم لا يسيئون استخدام الديمقراطية فحسب، بل يحتقرونها علنا.
إما الديمقراطية الترامبية تخضع كل شيء حتي الأرواح لحسابات التجارة والمصالح الاقتصادية، فيسارع ترامب في وضع الحرية والديمقراطية علي ميزان الربح والخسارة ميزان البراجماتية الطاغية، التي تضحي بالأخلاق والانسانية والرحمة من أجل المصلحة.
وفي الواقع أرى أننا تقريبا عدنا لمرحلة القهر والاستبداد التي بدأها الإنسان علي الطبيعة في القرن (١٨)، ولكن هذه المرة لا للإنسان علي الطبيعة ولكن للإنسان علي الإنسان. عدنا للقهر الديمقراطي للسيطرة بالحرب التجارية للكسب المادي وتحقيق الأحلام بالسيطرة العظمي والهوس المرضي بجنون العظمة، ولا عزاء للضعفاء.. فأين هي الديمقراطية؟! إنها أزمة الإنسانية لا الديمقراطية تلك الأزمة المفجعة المفزعة.
ونحن في مرحلة ” استبدادٍ أكثر رعبا ” كما وصفها “كانط” في مؤلفه ” نحو السلام الدائم”، حين كتب عن دولة المواطنة العالمية، وهو ماجعله يتراجع عن فكرة دولة عالمية تبتلع بقية الدول وتخفي هوياتها القومية الخاصة، وعاد إلي البحث عن السلام الدائم، الذي مازال تحت طائلة البحث، ولو عاش كانط في زمننا هذا لمات قهرا من هول سحق الهويات القومية، والسلام والحريات وحقوق الإنسان.
نحن في عصر الديمقراطية ” الترامبية” الجديدة، عصر اللامعقول الذي يفوق حتي ما وراء الخيال، عصر يسحق فيه الحريات ويتشدق بحقوق الإنسان ويتخفي خلف الاتفاقيات، عصر يتجرع فيه كل يوم كؤوس من الدماء الحرة من الأطفال الأبرار، والنساء الأحرار، والشباب المناضل وكبار سن المتمسكين بأرضهم و عرضهم. فأي سلام هذا وأي حرية التي يشرعها ترامب بهواه ولهواه فقط؟!
وبالرغم من كل ذلك من المتوقع هدوء الحروب الدامية وتوقف إطلاق النار قليلا في بعض البلدان، في فلسطين تحت ذريعة خروج حماس من أراضيها وتسليم الرهائن المحتجزة، في لبنان نزع السلاح والاستسلام المطلق لإعادة إعمار البلاد مع تقسيم الجنوب والقضاء علي حزب الله، وفي سوريا تقسيمها إلي دويلات صغيرة من حق الدول العظمي، واليمن نزع السلاح والقضاء علي الحوثيين في المنطقة، وأما إيران فالتفاوض من أجل تفكيك النووي، وتحويله إلي نووي اقتصادي سلمي، والكل لابد أن يدفع الثمن تحت شعار “الدفع أو الحبس” والبقية تأتى.. فكل من يدفع ثمن سلامه ينعم بالأمن والأمان، ولو لفترة مؤقتة لحين تغير النظام العالمي، ولكن الحرب التجارية الاقتصادية لن تخمد ولن تهدأ أصواتها في الصين لأن الأمر يرتبط بالحلم العالمي في غزو السوق العالمي، وكما يردد رئيس الصين أنه ” لا رابح في الحرب التجارية” فماذا بعد..؟
طال الأمد وفاض الكيل وزهقت الأرواح تقتيلا وتعذيب وإبادة بل وتطهير عرقي للقضاء علي الانسانية جمعاء، ولا حياة لمن تنادي في دنيا المصالح والمكر والخداع .
وأتصور أننا نحتاج إلى ميثاق إنساني أو عقد اجتماعي عالمي يقوم على التضامن بين الشعوب، واقرار السلام المنهار من أجل تحرير الإنسانية من قيود الغطرسة أو الحماقة السياسية..
نحتاج إلى انتفاضة غضب تقف أمام ما يجري من أحداث مهولة.. ولنا الله!.