بقلم ✍️ د.مارينا إبراهيم ميخائيل
(مدرس الاعلام ـ قسم الاتصال الاعلامي المتكامل ـ جامعة الاهرام الكندية)
“إن الأمم لا تُقاس بما تملك من قوة السلاح، بل بما تملك من قوة الوعي” ،هكذا قال مالك بن نبي، المفكر العربي الكبير، الذي أدرك مبكرا أن أخطر ما يهدد أي أمة ليس ضعف سلاحها، بل غياب وعي أبنائها وهويتهم.
لم تعد هذه المقولة مجرد فلسفة نظرية، بل صارت عنواناً للواقع الذي نعيشه اليوم على خريطة العالم السياسي. عالم لم يعد يخضع لسيطرة قوة واحدة، ولا لهيمنة زعامة مطلقة كما كان يحدث في زمن الحرب الباردة، بل تحول المشهد الدولي إلى ساحة مفتوحة للعبة المصالح والتحالفات المؤقتة، حيث تتغير القواعد كل لحظة، وتتصادم المصالح بلا ثوابت.
العالم الآن يشهد صراعاً مفتوحاً بين القوى الكبرى: أمريكا في مواجهة روسيا في أوكرانيا، والصين تصعد بقوة في سباق الاقتصاد والتكنولوجيا، والهند تسجل حضورها كقوة إقليمية ودولية صاعدة.
وبين الغرب والشرق تتشابك خطوط النار، بينما تبقى منطقتنا العربية، وخاصة منطقة البحر المتوسط والصراع العربي الإسرائيلي، في قلب هذه المعركة الدولية الدائمة على النفوذ والثروات والطاقة.
لكن بينما يتصارع الكبار على الأرض، هناك ساحة أخطر ينسى كثيرون أنها موجودة..إنها العقول.. العقول الشابة، تحديداً العقول العربية، التي باتت مستهدفة كل يوم بحرب ناعمة أشد فتكاً من أي معركة تقليدية. فالحروب لم تعد فقط طائرات وصواريخ، بل تحولت إلى صناعة نماذج فكرية وثقافية جديدة، تغزو العقل، وتزرع فيه أنماط حياة غريبة عنه، وتفصله تدريجياً عن جذوره وهويته.
يقول الباحث الأمريكي نيل بوستمان في كتابه الشهير “تسلية حتى الموت” إن الخطر الحقيقي ليس في القمع السياسي العنيف، بل في الاستسلام التدريجي لسطوة الإعلام والترفيه، التي تدمر وعي الإنسان وتنزع عنه شخصيته الحقيقية.
وقد أكدت دراسة حديثة صادرة عن جامعة كامبريدج البريطانية عام 2023 أن 70% من الشباب العربي يشعرون أن مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في إضعاف ارتباطهم بالثقافة والهوية المحلية، بينما يعترف 58% منهم أنهم يقضون أكثر من خمس ساعات يوميًا أمام هذه المنصات، ما يجعلهم أكثر عرضة لفقدان الخصوصية الثقافية والذوبان داخل ثقافات مستوردة لا تشبه واقعهم ولا قضاياهم.
وفي استطلاع للرأي أجراه معهد الدوحة للدراسات عام 2022، قال 64% من الشباب العربي أنهم يشعرون بأن “هويتهم الثقافية أصبحت مهددة” بفعل المحتوى الذي يستهلكونه يومياً من الإعلام الجديد.
وكما قال المفكر المغربي عبد الله العروي: “إن أخطر استعمار هو استعمار الوعي، لأن المحتل حين يسيطر على فكرك، لا يحتاج لاحتلال أرضك.”
إن الصراع الحقيقي الذي نخوضه اليوم، ليس فقط بين الدول الكبرى في ميادين السياسة والاقتصاد، بل داخل عقل كل شاب عربي. معركة بين ما يفرضه عليه العالم الحديث من نماذج جاهزة للحياة والثقافة، وبين جذوره وهويته وأصالته وتاريخه.
وليس أمامنا إلا أن نعيد ترتيب أولوياتنا. أن نعود للقراءة العميقة، والتعلم الحقيقي، والوعي الصادق بقضايانا، والاعتزاز بجذورنا، بعيداً عن سطوة “الترند” وثقافة الاستهلاك السريع. علينا أن ندرك أن الانبهار ليس قوة، بل في أحيان كثيرة هو الوجه الآخر للضعف والفراغ. وأن الهوية ليست قيداً، بل مصدر قوة يحمينا من الذوبان والضياع.
العالم لن يتوقف عن لعبة المصالح ولا عن تدوير عجلة التحالفات والصراعات، لكن التهديد الحقيقي لا يأتي مما يملكه الكبار من قوة، بل مما يفقده صغارنا من وعي. وإن أخطر معركة في هذا العصر ليست معركة حدود وجغرافيا، بل معركة على وعي الإنسان نفسه، وعلى هوية الشباب العربي. والسؤال الذي يبقى مفتوحاً أمام كل شاب عربي: هل تريد أن تكون لاعباً في هذه اللعبة؟ أم تظل مجرد بيدق صغير تتلاعب به قوى الكبار؟