أحمد عصام الدين
عن مسرحية ( أغنية البجعة ) للكاتب المسرحي والقصصي الروسي أنطون تشيخوف ، أعد المخرج أكرم مصطفي مونودراما ( فريدة ) من بطولة الممثلة القديرة عايدة فهمي برؤية فنية جديدة ومميزة ، ليتألق مسرح الطليعة وقاعة صلاح عبد الصبور تحديدا بواحدة من أجمل العروض التي قدمت علي الساحة المسرحية المصرية ولمدة 50 دقيقة في نوستالجيا فنية أو حالة حنين الي الماضي .
عرفت مسرحية تشيخوف في الترجمات العربية باسم مسرحية أغنية التم أو أغنية البجعة أو أنشودة البجعة ( حسب الترجمة العربية المتوفرة ) التي كتبها عام 1887 ، وهي مسرحية ذات فصل واحد وليست مونودراما تتكون من شخصيتين هما : الممثل سفيتلافيدوف والملقن نيكيتا ، وخلال فترة تمهيد قصيرة يطلعنا بطل المسرحية عبر مونولوج طويل سفيتلافيدوف أن هذه الليلة هي آخر ليلة له في المسرح قبل أن يخرج الي المعاش ، حيث تركه الجميع وظل في المسرح يحتسي الخمر وحيدا ونعلم عبر مونولوج له أنه وحيد لم يتزوج ويبلغ من العمر ثمانية وستين عاما ، في هذه الأثناء يدخل الملقن فيراه علي هذه الحالة الكئيبة فيتساءل عن سبب وجوده وأن عليه أن يعود الي منزله ، فيخبره الممثل أنه عجوز وحيد وليس له زوجة تنتظره أو أولاد بعد أن أضاع فرصته في الزواج من فتاة أرستقراطية قبل سنوات طويلة ، اعجبت بتمثيله علي خشبة المسرح وأحبته لكنه لم يتزوج بها وتفرغ لحياته كممثل .
وعبر الحوار بينهما يكشف الممثل للملقن عن أهميته كممثل في هذا المسرح الذي أفني فيه عمره و أدي أدوارا عظيمة علي خشبته، وشهد له بذلك اعجاب الجمهور وتصفيقه ، هنا يغلبه حنينه الي الماضي ببعض المونولوجات التي أعجب بها جمهوره فيجسد مونولوجات من مسرحية جادونوف ومسرحية الملك لير ومسرحية هاملت ومسرحية عطيل مما يثير اعجاب الملقن المشاهد الوحيد ، وتنتهي المسرحية بخروج الممثل العجوز مستندا علي ذراع الملقن .
هذا عن مسرحية انطون تشخوف ( أغنية البجعة ) أما العرض المسرحي (فريدة) فإنه يدور حول حنين الي الماضي يصيب احدي النجمات السابقات في عالم المسرح بعد أن أصبحت عجوزا ، حيث تستدعي بطولاتها الفنية بعد أن جاءت لتشهد بروفات احدي المسرحيات فإذا بها تظل وحيدة وينساها الجميع فتصبح ازاء خشبة المسرح لتعود بذاكرتها الي الوراء وتأخذنا في رحلة فنية بعد أن احتست الخمر ودخلت في موجة من الهلوسة الفنية ، وبعد أن كانت الممثلة العجوز تمشي بخطوات متثاقلة وجسد محني وصوت ضعيف ، تتلون صوتيا وجسديا في أداء حربائي فتستدعي أبرع الأدوار التي قدمتها علي المسرح وتستحضر مونولوجات لشخصية الليدي ماكبث بكل قسوتها وحدتها وعنفوانها ، وشخصية ميديا بدمويتها ، كما تستدعي شخصية امرأة مقهورة تشعر بالخواء النفسي والانساني والوحدة في هذا العالم تعاني قسوة الأب والزوج فتنتقم منهما شر انتقام وفي هذا اشارة واضحة لنبذ العنف ضد المرأة ، كما تجسد شخصية مريضة نفسيا تشعر برغبة في التحرر من المرض والأسر داخل احدالمستشفيات المتخصصة ، اضافة الي تجسيد دور فتاة ريفية تنتظر حبيبها وتعبر عن دواخلها بحرية من خلال المونولوج .
عمق من اداء عايدة فهمي خشبة المسرح التي انقسمت الي بؤر ضوئية صفراء تستدعي كل شخصية ليتحول المسرح الي بانوراما ابداعية لفريدة السيدة التي تفردت في الماضي بإبداعها واستطاعت ببراعة وبكل بساطة وحيوية ان تعيد انتاج هذا الماضي وأن تستدعيه وهي تتحدث إلي صديقتها ( الهام ) في اشارة الي الحالة المسرحية الملهمة ، والتي تخشي عليها من وجودها وحدها في المسرح في هذا الوقت المتأخر من الليل وهو كما يشير الحوار الثالثة صباحا ، لكن فريدة تطمئنها هذا الاطمئنان الذي تسلل إلي نفسها بمجرد أن شعرت أنها علي خشبة المسرح ، حيث نسمع صوت المخرج من الخارج يعطيها اشارة البدء وكأنه ذلك الماضي البعيد يدفعها دفعا للدخول في اللعبة التمثيلية من جديد ، وما أن يعثر عليها رجال المسرح في النهاية حتي تلملم أشياءها من علي خشبة المسرح الشنطة والايشارب والجاكيت في انكسار لأنها ستغادر محبوبها المسرح ، وتطلب منهم أن تخرج من الكواليس كما كانت تفعل في الماضي وينتهي العرض .
من هنا نجد أن العرض المسرحي (فريدة) قد استبدل مسرحية تشيخوف بمونودراما لسيدة عجوز بدلا من كونها مسرحية من فصل واحد لممثل عجوز وملقنه ،وهي نفس حالة الحنين الفنية، غير أن الأمر هنا استدعي – عبر المعالجة التي قدمها أكرم مصطفي – اختيار مونولوجات لشخصيات نسائية من مسرحيات كلاسيكية مثل ليدي ماكبث وميديا ، اضافة الي شخصيات معاصرة مثل شخصية المريضة النفسية والمرأة المقهورة ونعمة الفتاة الريفية المحبة، مما اكسب العرض حيوية لدي المشاهد الذي يتفاعل مع قضايا تهمه ، ومن هنا اختلفت المستويات اللغوية أيضا بين الفصحي والمتمثلة في المونولوجات الكلاسيكية وبين العامية التي تعبر عن المعاصرة في المونولوجات الأخري اضافة لكون العرض كتب باللهجة العامية علي خلاف المسرحية بالطبع والتي ترجمت الي الفصحي .
استخدم مهندس الديكور والاضاءة عمرو عبد الله قطع ديكور تم توظيفها ببساطة علي خشبة المسرح الذي اتخذ شكل العلبة الايطالية ليجسدا سينوغرافيا المكان الذي عبر في نفس الوقت عن مرور الزمن عبر قطع الديكور المهملة والتي تدل عبر اهمالها علي انصراف الوقت وانتهاء العمر؛ اذ اصبحت قطعا قديمة متراكمة كعمر الممثلة العجوز ومن هذه القطع : المرآة القديمة التي تستعد بها الممثلة لتضع الماكياج وهي تستدعي شخصية ميديا وكذلك بعض الأغراض المهملة مثل الشباك والباب الملقي في عمق المسرح، اضافة الي كرسي علي الجانب الأيسر للمسرح و ثياب معلقة باهمال علي الجانب الأيمن وكلها مما يدل علي أن البطلة هنا من المهمات المهمشة مما يعمق الشعور بمشاعر الحزن والعجز ، بالإضافة الي استخدام البؤر الضوئية الصفراء والاضاءة الباهتة التي سلطت علي الممثلة في أجزاء متفرقة علي خشبة المسرح مما أعطانا الاحساس بتمكنها من جهة وقدراتها التعبيرية الهائلة عن الحزن والشجن وحالات الشخصيات المختلفة ، أما موسيقي محمد حمدي رؤوف فقد جاءت موحية بالحالات المسرحية المختلفة سواء ليدي ماكبث أو ميديا أو نعمة اضافة الي مشاعر الانكسار والحزن في نهاية العرض لتتكاتف عناصر العرض جميعها في خلق تأثير عميق علي النفس عندما تمر السنون ويشعر الانسان بالحنين إلي ماضيه وامجادة السابقة وعجزه عن الاستمرار ، لكن العرض هنا يطرح رؤيته من خلال اضاءات مستقبلية استطاع المعد والمخرج أكرم مصطفي و الفنانة عايدة فهمي بآدائها المتمكن أن يسلطا الضوء عليها، فالفنان بموهبته وابداعه وقدراته الخيالية والتخيلية قادر علي الاستمرار والعطاء مادام علي قيد الحياة بل ان الماضي وخبراته اللامتناهية تصقله وتكسبه حاسة ابداعية تتضاعف مع الزمن لتصنع منه أسطورة ذاتية لها كل تقدير .