بقلم د. ناهد الطحان
الكاتب الروائي والقاص والاعلامي رضا سليمان مبدع يمارس بأدواته اللغوية والفكرية طرازا نادرا من الحكي عبر عوالم انسانية ونفسية طوعته من خلال عمله الاعلامي كمخرج ومؤلف للتعامل مع واقعه واستجلاء الحقائق والوقوف علي متطلبات مجتمعه ، فقد قدم العديد والعديد من الأعمال الاذاعية الهامة التي صورت الواقع المجتمعي عن قرب من أهمها البرنامج الشهير (همسة عتاب) الذي يخرجه لاذاعة البرنامج العام منذ سنوات طويلة ، اضافة الي سلسلة الأعمال الروائية التي عكست خصوصية ابداعه فكانت حصادا واعيا لمسيرة ابداعية طويلة .
وقد صدرت مجموعته القصصية ( أنثي في الجوار وقصص أخري ) عام 2020 بعد سلسلة من الأعمال الروائية المتميزة منها : عمدة عزبة المغفلين ، مطلب كفر الغلابة ، ماريونت ، وحي العشق ، ظلال الموتي ، شبه عارية ، ماقبل اليوم الأخير ، المدنس ، أسيرة العشق ، فن الهبدلوجي ، اضافة الي مسرحية آدم تو وهي مسرحية كوميدية .
فعبر أسلوب ساخر مشحون بعمق المعني وجدة الأسلوب وديناميكية اللفظ واللحظة ولهجة لا تخلو من عتاب علي الواقع ، يأخذنا الاعلامي والروائي والقاص رضا سليمان الي عتبات مجموعته القصصية الأولي ( أنثي في الجوار ) والتي صدرها بقوله ( إلي كل باحث عن الحقيقة والجمال .. طوبي لكم ) ليدخلنا عبر قصصها في غمار مكاشفة الواقع، والبحث فيما وراء مشاعر منغمسة بوجع اللحظة لنماذج بشرية منتقاه جاءت من عمق الواقع يجمعها ثقله وزئبقيته المتعمدة في مواجهة تهميش أحلام وأوجاع ضحاياه رغم محاولاتهم الدؤوبة للتحرر من أسره وهو مايذكرنا بسرير بروكرست الأسطوري الذي لاهم له سوي لي الحقائق ووأدها بغية الانفراد بالسطوة والاستحواذ علي كل سلطة عبر سلسلة هرمية تقتات علي دماء الفقراء .
فنجد أصحاب الشقق المستغلين كما في قصة ( الهارب من المستقبل ) اذ يبدأ الراوي الحكي علي لسان البطل الشخصية الرئيسية قائلا ( هربت من المنزل .. تركت أسرتي .. المستقبل بين أفرادها يبدو كئيبا للغاية ، لا أكره أحدهم ، الظروف هي التي أجبرتني )، حيث يقرر البطل الهرب من أسرته التي تئن من عتمة الفقر والدين ، رغبة في الاستقرار وتكوين أسرة بدوره بعد أن تغلب علي مشكلة العمل لكنه يصطدم بالحقيقة الصادمة فأغلب أصحاب العمارات والشقق يتركونها فارغة دون تأجير من أجل أولادهم أو من أجل مكاسب مضاعفة في المستقبل ، فضلا عن المغالاة الشديدة في أسعار الشقق المعروضة، حتي وصلت لأرقام فلكية فوق طاقة أي شاب .
وفي (أنثي في الجوار ) ثاني قصص المجموعة فيصور لنا الراوي بأسلوب ساخر عالم الكلاب بما فيه من بساطة كرمز للواقع المعاش، حيث يتخذ الكلاب كبيرا لهم يحميهم ويرجعون اليه من قسوة المجتمع ويتقربون إليه بقرابين لحاشيته حتي يشملهم بالحماية في اشارة للشللية والديكتاتورية بكل أشكالها .
كما يسجل لنا مؤلفنا لحظة بلحظة – من خلال الحكي لمجموعة من الأصدقاء في احدي ليالي السمر في قصة ( قرابين علي صدور العرايا ) – كيف تحول تجار الروبابيكيا الي أثرياء مستغلين للفقراء الذين يجنحون لشراء السلع متواضعة الجودة، حيث يقوم تجار الروبابيكيا بالمتاجرة بالمخلفات بكل أشكالها وبيعها الي شركات اعادة التدوير ليشتريها الفقراء بسعر أعلي ولكن بجودة متدنية، لأنهم لايملكون المال اللازم لشراء المنتجات عالية الجودة ، اذ يقول ( الفقر .. هو الذي صنع عددا كبيرا من أثرياء مدينتنا ، تلك الجملة الصادمة والغريبة في تركيبها هي واقع حقيقي لدينا ..( كيف ذلك ؟!) سألني اصدقائي في خلوتنا الشتوية التي نتسامر بداخلها ليالي الشتاء الحزينة ) .
وفي ( ثورة الأيدي ) يعالج القاص مشكلة الانتهازية والفساد وديكتاتورية السلطة في اطار فانتازي ، اذ تغافل الأيادي أصحابها النائمين وتهرب مجتمعين ومعلنين الثورة علي أصحابهم ، ويطالبون بتغيير القوانين الظالمة والمستبدة وبالحرية في الرأي والاختيار ،اذ يروي المؤلف قائلا : ( تسير الأيدي في الشوارع جماعات جماعات ، يتزايد عددهم يعلو هتافهم : تحيا ثورة الأيدي العظمي .. تحيا ثورة الأيدي البيضاء .) ، فيواجه أصحابهم ثورتهم في سخرية ورفض ويتبعون سياسة التجويع كي تعود الأيدي إلي أصحابها مرة أخري جبرا ، في اشارة مؤلمة للواقع الضاغط في كل مكان وزمان ، والذي تتعالي فيه السلطة علي الشعب وترفض تحقيق متطلباته العادلة .
ونصطدم بحالة من الكبت والقمع في قصة ( الوحش الاسطوري ) والتي تمثل قمة ماتصل اليه السلطة الفاسدة من تلاعب ، اذ تلصق بممثل الشعب التهم وتسجنه وتتعامل مع الشعب ومناصريه بأفعوانية بغية تفريق شملهم ووأد وحدتهم، وهي طريقة معتادة للفت في عضد أي قوة تشرئب بعيدا عن السلطة ، اذ يقول الراوي علي لسان البطل ( أين المناضل كامل ؟ ، بهذا يهتف الوحش الأسطوري ، تهتز الأرض أسفلنا يترنح الطاغية إثر زلزلة المكان ، يتعلق بحديد الشرفة ، يخاطب الجموع بصوت مشروح أظهر خواء داخلي ) في اشارة الي الضعف والخنوع الذي تشعر به القوي المستبدة أمام قوي الحق والعدل ، وفي قصة ( الولد) لون آخر من ألوان الاستغلال وفرض السيطرة والتسلط ممثلا في مدرسي احدي مدارس القرية ،حيث يجبرون التلاميذ علي الدخول في الدروس الخصوصية وعندما تضيع أموال الولد الخاصة بالدرس ، ويهرب من جزاء والده يبقي بطش مدرسيه حيث يعامل بقسوة ويهدرون كرامته وعندما يعلم الأب بالأمر يطمئن ابنه قائلا ( أبدا يابني .. كرامتك أهم من أي فلوس ) .
أما في قصة ( دهب .. ياقوت .. مرجان ) يسأل الشاب القروي أمه بعد أن كبر عن سر عدم شرائها التليفزيون اللعبة له في طفولته، فتخبره بكل بساطة وتلقائية ( البريزة وقتها كانت كتير علينا يابني ) هكذا يمد الواقع سطوته علي البسطاء فيلون حياتهم ويترك فيهم ندوبا لا تمحي .
كما يجسد الكاتب حالة السخرية من الواقع الاجتماعي والتملق بأشكاله من خلال قصته ( صراع الحشرات ) ، حيث ينتقل المعزيون في احدي مناسبات العزاء لقتل الحشرات بدلا من الحزن علي الفقيد في سخرية واضحة لعالمنا المعاصر المتلون والمتقلب والمزيف في آن .
كما ينتقل بنا الراوي إلي حالة التبلد واللامبالاة والسلبية التي تصيب المجتمع في قصته ( فاقد الوعي ) من خلال فتاة عشرينية تحاول نجدته بعد أن سقط في أحد الشوارع و صدمه الواقع حيث يقول الراوي : ( كثيرا ماكان يرفض تصديق ما يحدث حوله ، نشرات الأخبار ، الصحف المكدسة ، الناس من حوله تتزاحم وتتصارع بل وتتقاتل ، يرفض معلقا ، الأصل في الانسان الفضيلة . مع تفاقم الوضع يهزل جسده ، تتوالي الصدمات ، لم تعد ليه أية قدرة علي تحمل ما يحدث ، يحاول الصمود .. ولكن ..) ولا تجد الفتاة أي مساعدة ممن حولها في اشارة لانغلاق المجتمع علي نفسه، وتغير قيمه ومبادئه بعد أن أصبحت المادية هي المهيمنة علي حياتنا .
رغم ذلك يعبر الراوي عن أمله في تغيير الواقع للأفضل والانتصار للحقائق المثلي بعيدا عن الزيف من خلال نصين هما ( العائد ) و( الجانب المشرق ) ، اذ تروي الأولي ميلاد القائد الذي يقضي علي عبثية هذا الواقع وشروره من خلال ميلاد طفل جديد يمثل الأمل في المستقبل محاربا أشكال القهر والتسلط، والثانية تعبر عن الجانب المشرق في صبي يهرب من أحد ملاجيء الأيتام ويسرق كي يعيش لكنه يعيد ما سرق للسيدة العجوز التي سرقها بعد أن علم أن هذه الأموال هي صدقات لملجأ الأيتام الذي كان يأويه ، وعندما يقبض عليه تبرأه العدالة فيخرج ليفاجأ أن العجوز التي سرقها توفر له المأوي كما يوفر له الملجأ وظيفة بمرتب مجز .
هكذا يتجول بنا الكاتب والروائي والاعلامي رضا سليمان بين جنبات مجموعته القصصية معاتبا أحيانا ومهاجما أحيانا أخري بوحشية الراوي المتمرس في الامساك بتلابيب مشاعر شخصياته وجماليات السرد بتفاصيله البنائية ، اذ تتحرك شخصياته أمامنا بعفوية منبعها صدق وتلقائية وقراءة واعية من الراوي استطاع بها أن يجذبنا الي عوالمها ، كمتبتل في محراب تدفعه روح وثابة نحو استجلاء الحقيقة والوصول الي منابع المعرفة ، وقد نجح المبدع رضا سليمان في استلابنا عبر الحكي المتواتر وعمق المشاعر، بعد أن وضع أيدينا علي مكامن الندوب في أرواح شخصياته في اشتباكها مع الواقع أحيانا ومع ذواتها أحيانا أخري ليصل بنا الي لحظة الاستنارة الفكرية التي يبحث عنها كل مبدع ومتلق علي السواء ، عبر تحقيق التواصل الحقيقي بين النص وقارئه .