حدثنا يسري حسان عن معاناته في فريق تحت السن، أي قبل الستين عامًا. تغيظه ملاحظات الناس وتعليقاتهم. يخصونه بمسميات من مثل ” الحاج” و” البركة” وغيرها مما ألف سماعه من هم فوق السن أمثالي الذين يمثلون فريق الشمس، وهي تسمية تعود إلى المدرب القديم عبد القادر حسنين، لما كون فريقًا من معتزلي الرياضة تقتصر ألعابه على المشي والثني والمد والاستلقاء تحت أشعة الشمس.
أذكر أنى كنت أرافق فناناً صديقًا، حين التقينا فى الطريق بفنانة، فقال لها مداعبًا: طول عمرك تصادقين الفنانين.. ألا تصادقين أديبًا؟!
رفعت الشرطتين المرسومتين أعلى عينيها، وهتفت: هذا العجوز؟!.
ولم أكن وقتها قد بلغت الثلاثين!
وعندما بدأت سنيّ الغربة فى سلطنة عمان، أراد أحد المصريين العاملين هناك أن يعبر عن فرحته بقدومى، فقال: ها قد جاء والد لنا.
وكان الرجل يخطو إلى الخمسين، ولم أكن قد جاوزت الثامنة والثلاثين!
كانت مشكلتى دومًا أن أقنع الآخرين بعمرى الحقيقى: معقول.. ومختصر كام سنة؟.. تبان أكتر من كده؟.. لازم شايل الهم بدرى!..
ولأن ذلك كله صار من الماضي بعد أن كدت – لدواع صحية – على ترك فريق الشمس، فإني آخذ راحتي في الكلام، بعيدًا عن الملاحظات الملمزة والمعايرة.
لا أذكر هل كنت أسعد أو أحزن ، لما بدوت- في صباي- في مظهر الأكبر سنًا. ومع أن شقيقى يكبرني بعام ونصف العام، فقد كان الآخرون يعاملونني باعتباري الأكبر سنًا. وقد ورثت عن أبي- في سن باكرة – شعره الأبيض، وقبل أن أتم العشرين، كان الشيب قد هزم السواد في رأسي. أقنعني الأصدقاء – لفترة – باستخدام صبغة الشعر، ثم أقنعتني زوجتي بعكس ذلك، وإن أضافت ملاحظتها أن استغراقي في الكتابة يؤدي إلى تقلص ملامحي – هي التي ترى – وزيادة التعرجات والدوائر في وجهي، فالمهنة التي اخترتها إذن شيبتي قبل الأوان!.
أنا لم أشعر بمرحلة من مراحل عمري إلاّ فى نظرات الآخرين وكلماتهم. لم تشغلنى تلك المسألة يومًا، ولا وضعت لها اعتبارًا من أي نوع . مادمت سليمًا، وأستطيع الحركة، فأنا أعمل وأعمل وأعمل، حتى نبّهني من قال لي: ما كنت تفعله من عشر سنوات يصعب أن تفعله الآن.
تأملت الكلمات، وتأملت داخلي، وتأملت تصرفاتي، وأحوالي الصحية، وحاولت أن أهمل النصيحة، لكنها كانت كالوشم الذي يستحيل أن أزيله من جسمي!.أذكر قول برناردشو: الناس هم الذين جعلوني أشعر بأني كبرت. انهم كلما رأوني أكتب قالوا: ولكنك كبرت يا مستر شو.. فإذا مت فليس لأني عجزت عن الفكر والإبداع، وإنما لأن الناس أرادوا موتي!
أسرفت في التنبه للكلمات المشفقة، والمحذرة، إلى حد أني أصبحت أعبّر عن المشاعر التي تصلني من الخارج، وليست تلك التي تنبع من داخلي. ثم تبينت – بإعمال الفكر -أن تلك الطريق التي اختارها لي الآخرون، قد تكون طريق السلامة، إيثار السلامة، تحاشي النظرات والمراقبات والملاحظات.. لكن النهاية قد تكون مأساة كاملة. ربما يصل إلى تلك النهاية شخص آخر غيري، أفسد الآخرون حياته، دمّروا أعماقه، وشوّهوا رؤيته للأشياء، ودفعوا به إلى حجرات لا تنتهي، كتلك التي تبدل ملامح الإنسان في مدينة الملاهي، فيخاف – أحيانًا- من صورته!
الإنسان فى أعماقى شاب. بل إنى أتصوره لم يبلغ العشرين، لكنني أضطر إلى الرضوخ لانعكاسات الملامح في نظرات الآخرين. أنا الأكبر سنًا حتى بالنسبة لمن يكبروننى فى السن! وكم امتنعت – زمان – عن ارتداء ثياب أحببت ارتدائها تلافيًا للنصيحة السخيفة: يا رجل.. ارتد ما يليق بك!..
والحق أني أشفق على من يسعد بطول عمره. هو بلغ السبعين والثمانين والتسعين. عمّر فى الأرض، لكنه لم ينتج، لم يضف، لم يطور، لم يترك – حين غادر الحياة – ما يدل على أنه كان فيها .
أنا أجد الشيخوخة مرحلة في الحياة، على المرء أن يشغلها بما وسعه، بما تقوى عليه قدراته الذهنية والنفسية والجسدية، لا معنى لأن يموت المرء حيًا، يموت قبل أن يدركه الموت فعلًا، يمحو دلالة الانتظار السخيفة، يستبدل بها التفكير والعمل ومحاولة الإضافة. القردة – في المثل الأثيوبي – لا تتكلم عن عمد، حتى لا ترغم على العمل .
قد تكون – بشيخوختك – أقدر على العمل في مجالك ساعات طويلة، بينما يضيع الآخرون أوقاتهم، وأوقات المجتمع، في سخافات، لكنهم يجدون في مرحلة الشباب التي يحيونها، ما يهبهم الحق في التمتع بالحياة، ونفي الضرورة – إطلاقًا- عن المتقدمين في العمر!
ثمة مقولة ” الزمن ليس هو ما نعرف، لكن الزمن هو ما نشعر به “. ولعلي أضيف قول كامل الشناوي: إني أعاني تناقضًا رهيبًا في حياتي، جسد أرهقته الشيخوخة، ومشاعر لم تتجاوز مرحلة الطفولة”.
ورغم الحصار الذي عاناه رفعت القباني في روايتي ” حكايات الفصول الأربعة “، حين تعطل مصعد العمارة ، فلزم شقته في الطابق الثانى عشر.. رغم ذلك الحصار، فإنه تذكر – في لحظات الانتظار والضيق والملل – نصيحة صديق بأن يكتب سيرته الذاتية، وجلس ليكتبها، ولأنه لم يجد ورقًا كافيًا، فإنه لجا إلى ورق التواليت، أودع الكتابة كل مشاعره.
الشباب لا يرتبط بالسن، الشباب الحقيقي هو الطموح والأمل والعطاء ومحاولة الإضافة. يغيظني من يفضل الجلوس في الظل، ويتغنى بما وهبه الله من نعمة الشباب، بينما قد يعكف شيخ جاوز الثمانين- أذكر المستعرب الألمانى الدكتور أرنست بانيرت، وعشرات المصادر والمراجع التى امتلأت بها الطاولة في مكتبة معهد الدومينكان بالعباسية، يقرأ، ويقلب، ويسجل الملاحظات، ويكتب – على الدراسة والبحث، لا يشغله إلا أن يملأ أيامه بما يفيد. وقد بدأ السير هنرى سبلمن دراسة العلوم في سن الخامسة والستين. كما بدأ فرانكلين دراسة الفلسفة الطبيعية وهو يخطو نحو الشيخوخة. وسئل لاكيدس : هل الوقت يسعك لدراسة الهندسة في سنك المتقدمة ؟. فأجاب ببساطة : إن لم يسعني الآن، فمتى يسعني ؟!.وحين بلغ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش السبعين من العمر، قال إنه عندما يصل المرء إلى هذه السن، فإن الكلام والحديث هو النشاط الوحيد الذي يستطيع القيام به دون مشكلات.. لكن بوش لم يعمل بتلك النصيحة، فقد عاش حياته طولًاوعرضًا وعمقًا، حتى أنه أقدم على رياضة القفز بالمظلات بعد أن جاوز الثانية والسبعين!
الشباب حالة مادية، عضوية، لكنه – في الوقت نفسه – حالة نفسية معنوية. إنه الحماسة للحياة، والإقبال عليها. قد يكون للسن تأثيراته في حركة سيري وقعودي وقيامي ونومي وصحوي وما أتناوله من طعام وأدوية وتأوهات تصدرها العفوية، لكن ذهني لا ينشغل بذلك كله. إن له حياته الخاصة، عمره الخاص، والذي لا يجاوز الشباب بحال. أذكرك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا أحب الله عبدًا، أطال عمره، وأحسن عمله، بمعنى أن العمل ليس شيئًا يلام عليه المرء – حتى لو تقدمت به السن – لكنه يلام على الكسل.
إذا كان على مبارك قد كتب خططه ليفيد منها قارئو العربية ودارسو المكان المصري بخاصة،وإذا كان يوسف الجزايرلي قد وضع خططه للغرض نفسه، وإن قصر جهده على المكان السكندري.. فإن حسن خليل لم يوضح الهدف من كتابة نوتته الصغيرة، تتضمن شوارع بحري وميادينه وأزقته، وأهم معالم الحي القديم. جمله القصيرة المركزة تشي بأنه قد كتب هذه النوتة ليزجي فراغ رحلة المعاش، أو ليفيد منها في مشروع أعده، وكان هو وحده أعلم بتفصيلاته. لكن الرجل – فيما يبدو – عدل عن مشروعه، فأهدى النوتة إلى صديقنا المشترك الشاعر الراحل عبد الله أبو رواش. وحين علم أبو رواش بمشروع روايتي ” رباعية بحري ” التي تعني بالحياة في الحي منذ أواخر الحرب العالمية الثانية إلى قيام ثورة يوليو، وجد في المعلومات التي تحويها النوتة الصغيرة ما قد يفيدني في تذكر أسماء الأماكن، علمًا بأن صلتي بالإسكندرية اقتصرت – منذ إقامتي في القاهرة – على الزيارات المتقاربة، أو المتباعدة.
حسن خليل هو خليل الفحام في روايتي ” أهل البحر “. لم تتح لي الظروف لقاءه، لكنني حاولت التعبير عن إنجازه المهم، فجعلته شريانًا رئيسًا فى جسم الرواية .
رفض الرجل أن تتحول رحلة المعاش إلى جسر انتظار. حاول أن يصنع شيئًا، يشغل به وقته، ويفيد منه الناس. بدأ رحلة في الزمان والمكان، عبر مساحة محددة ومحدودة، بدايتها ميدان المنشية ونهايتها سراى رأس التين، نبضها رفض الانتظار السخيف، والتغلب على الملل والوحدة، والتعبير عن الشوق والحنين والمحبة، ومحاولة رسم لوحة بانورامية للزمان والمكان في بحري، تهب المثل لمن يريد أن يصنع شيئًا، حتى لو كان موظفًافي رحلة المعاش .
لا أعرف عن حسن خليل إلا أنه كان موظفًا صغيرًا في محافظة الإسكندرية، ظني أنه حاول أن يشغل رحلة المعاش، مثلما يشغلها الكثيرون، برعاية أبنائه وأحفاده، والتردد على بيوت الله، والجلوس إلى أصدقاء العمر في المقهى القريب.. لكنه أضاف إلى ذلك سعيًا لإنجاز مهم، دلالته رفض اجترار الملل وتوقع النهاية، لكنها قد تكون بداية جديدة فى حياتنا، نفرغ فيها لما صرفتنا عنه أيام الوظيفة .
لعلنا نجد المثل – أدبيًا- في أستاذنا نجيب محفوظ، الذي أضاف إلى المكتبة العربية – منذ أحيل إلى المعاش – كمًا متميزًا من الأعمال الإبداعية، يفوق ما صدر له قبل أن يبلغ الستين!
وسع محفوظ من دائرة صداقاته وعلاقاته الإنسانية، وزاد من وقت حياته الأسرية، لكنه لم يهمل نشاطه الإبداعي ، فكتب الكثير من الأعمال التي اتصلت بما سبقها، فشكلت في مجموعها مشهدًا روائيًا متكاملًا، بلغ غايته في أصداء السيرة الذاتية، وأحلام فترة النقاهة،
السؤال هو: ماذا كانت تخسر الإنسانية لو أن هؤلاء الشيوخ ماتوا فى سن باكرة، فلم يضيفوا إلى رصيدها ما أبدعوه فى سن متقدمة؟
قد تصح الشيخوخة فى السن، لكن الإبداع لا سن له، بل إن الشيخ سنًا قد يكتب إبداعًا شابًا، بينما العكس هو ما يفعله من ينتمى إلى سن الشباب. ثمة محاولات لشباب لا ينقصها سوى التحنيط، مقابلًا لإبداعات الكبار التى تؤمن بالحداثة والتجريب والإضافة.
يقول الأمريكى فيليب روث ( رواية الحيوان المتحضر) ” من سيعرف ما الذى سيكون عليه عندما تداهمه الشيخوخة. قد تكون هناك وظيفة بيولوجية داخلية، تخفى هذه الحقيقة، فلا يفترض أنك ستعرف إلا عندما تصبح هناك بالفعل، ومثل حيوان لا يعرف شيئًا عن الموت، فإن حيوان الإنسان لا يعرف شيئًا عن العمر المتقدم”.
أنا أومن بالمقولة: ” لو فقدت ساعة في الصباح، فسوف تبحث عنها بقية اليوم “. ولعلي أضيف قول غاندى” اعمل بكل طاقتك، ولا تفكر فى نتيجة العمل “. وكانت النصيحة التي قدمتها إحدى شخصيات تولستوي أن السعادة تتحدد في العمل المتواصل الذي يعنى بالذات ، وبالآخرين، وكما يقول شيشرون: فى العمل تكمن الطاقة المبدعة.