تحقيق – عبدالرحمن أبوزكير :
لا تزال قرية “جراجوس” الواقعة جنوب مركز قوص، بمحافظة قنا، صاحبة الشهرة الأوسع في صناعة الخزف التى نقلت القرية من المحلية إلى العالمية، خاصة مع وجود مصنع للخزف شاهد على مراحل تطور الصناعة قبل أن يتم إغلاق المصنع خلال الأيام الماضية ويتم طرد من فيه من فنانين استنادًا لحكم قضائي لصالح المطرانية صاحبة الأرض المقام عليها المصنع لتواجه الصناعة الأقدم في جراجوس.. شبح الإندثار !
البنايات القديمة للمصنع تحكى تاريخ إنشاء المصنع الذى أنشئ في عام 1954 م وكان صاحب الفكرة الراهب الجزويتى “اسطفان دى مونجلفييه”، بينما قام بتشييده المعماري الشهير المهندس حسن فتحي صاحب تجربة العمارة الشعبية.. وأخذ أربعة من الفنانين العمل بهذا المصنع حتى اكتسب شهرة عالمية على مستوى الوطن بل وعلى مستوى العالم.
ويؤكد المؤرخون أن الأب “هنري أمين عيروط” مؤسس الجمعية الكاثوليكية للمدارس المصرية “جمعية الصعيد للتنمية حالياً”، يعد أول من لفت النظر إلى قرية “جراجوس” بمركز قوص، حيث أقام في القرية موفدًا من “الجزويت” وأنشأ بها مدرسة ابتدائية، وفي عام 1945م جاء راهبان من الجزويت، حيث تعلما العربية وأحبا جراجوس وأقاما بها واستأنسا بأهلها.
وحاول الفرنسيون تنمية القرية من خلال آباء الجزويت الوافدين للكنيسة الكاثوليكية، لتبدأ فكرة إقامة مصنع الخزف بالقرية على يد مسيو “لوفريه” أحد أفراد البعثة الأثرية، وتحمس لها الأب “مونجولوفييه” الذي استعان بالمهندس حسن فتحي لبناء هذا المصنع بالقباب الطينية، وقد نجح عدد من الفرنسيين والسويسريين، في تعليم أبناء القرية صناعة الخزف بكافة جوانبها الحرفية والكيميائية والتشكيلية بداية من عام 1955م حتى اكتسبوا مهارة عالية، مكنتهم من إقامة أول معرض لهم بالقاهرة في تلك الفترة حتى ذاع صيت المصنع نظرًا لجودة منتجاته التى كانت شاهدًا على عبقرية الفنان الجنوبى، قبل أن يواجه المصنع أزمة الإغلاق خلال الأيام القليلة الماضية.
“المساء ” قامت بزيارة إلى قرية جراجوس لترصد عن قرب أزمة إغلاق مصنع الخزف ومدي تأثير ذلك على الصناعة التى اشتهرت بها القرية على مر العصور، حيث قال فواز سيدهم – أحد الفنانين الشركاء فى المصنع- أن المصنع أُغلق أبوابه قبل أيام، وذلك بعد نزاع قضائي استمر لعدة أشهر بين المؤسسين من الفنانين التشكيليين والكنيسة الكاثوليكية ليصدر حكما قضائيا بأحقية الكنيسة بالمصنع، وتواجه صناعة الخزف شبح الاندثار رغم أنها تعد واحدة من أهم الصناعات الشعبية والتراثية التي لا يخلو منزلًا في صعيد مصر من منتجاتها التي تصل إلى نحو 36 دولة حول العالم.
وأوضح أن بداية تأسيس المصنع بدأت على يد الراهب الفرنسي ستيفان ديمون، عندما قرر إدخال نشاط آخر بجوار حرفة الزراعة التى كانت الوحيدة لأهالى قرية جراجوس، فبدأ إنشاء مصنع للخزف، والذى تم تصميمه بنظام القباب ليتحمل حرارة الجو القاسية بصعيد مصر أثناء العمل، وبعد فترة من إنشاء المصنع ورواج منتجاته بين السائحين، ذاع صيته ليصبح منتجًا عالميًا له اسمه المميز فى مختلف بلدان العالم بفضل جودة وتميز منتجاته التى ما أن يشاهدها المواطنون إلا ويعرف الجميع أنه “صنع في جراجوس” .. كما شهد المصنع زيارات هامة لشخصيات محلية ودولية، أبرزها زيارة ملك وملكة السويد عام 1986 وعدد من الوزراء المصريين ونجوم الفن والأدباء والمثقفين.
أضاف قائلًا” أن المصنع تحول إلى واحداً من أهم معالم محافظة قنا، وبعد رحيل الجالية الفرنسية التى كانت تدير المصنع، أحيلت مسؤولية المصنع للعمال الموجودين بالمصنع وتولوا الاهتمام به واستكمال العمل، وإشهار المصنع كشركة مصرية لاستكمال الإجراءات الحكومية والتأمينية.
وأشار إلى إنه بعد سنوات قليلة من تأسيس المصنع تم تحرير عقد إيجار بين الكنيسة الكاثوليكية وشركة “ثابت لبيب يوسف لصناعة الخزف” والتي تضم 5 فنانين تشكيليين، وذلك بقيمة إيجارية وقتها 10 جنيهات ونسبة زيارة سنوية وصلت الآن إلى 1100 جنيه كقيمة إيجارية شهرية، وهي نظير إيجار المصنع الذي يقع بداخل أرض مملوكة للإبراشية الكاثوليكية، أما المعدات من أفران وغيرها فهي مملوكة للشركاء من الفنانين التشكيليين.
وتابع قائلًا: أن العام الماضي ونتيجة المشكلات التي بدأت تواجه منتجات الخزف وحالة الركود بسبب التسويق لقلة أعداد السائحين وافتقار الدعم المادي من الجهات المسئولة، وخروج قرية “جراجوس” من خريطة المزارات السياحية المصرية أيضا، فقد لجأ المؤسسين إلى فكرة التطوير من خلال توقيع بروتوكول تعاون مع غرفة الصناعات اليدوية لتطوير المهنة وتدريب نحو 25 شابًا وفتاة عن هذه الصناعة التي غزت جميع دول العالم.
وأشار إلى أنه بمجرد تغيير أحد الأفران التي تعمل بالمازوت واستبدالها بالغاز الصديق للبيئة فوجئنا بالكنيسة الكاثوليكية تقيم عدد من الدعاوى القضائية أمام إحدى المحاكم لفسخ عقد الإيجار، وعقب صدور الحكم لصالح المطرانية تم إغلاق المصنع وتشريدنا وأسرنا.
وأكد الفنان اسحق يوسف – نجل أحد الشركاء بالمصنع- إن مصنع الخزف كان يعد أحد أهم القلاع الصناعية اليدوية وكان يعمل به العشرات من الفنانين والمبدعين الذين حملوا على عاتقهم رسالة الفن، وهذه الصناعة التى جعلت من قرية “جراجوس” محط أنظار العالم لأهمية منتجاتها من أوان فخارية وأدوات منزلية كأطباق الأكل والسرافيس وتماثيل يتم اقتنائها من قبل السائحين الذين كانوا يزورون الصعيد قبل تفشى وباء كورونا وتأثر الحركة السياحية، بالإضافة إلى معرضين يقاما فى القاهرة والإسكندرية سنويا للترويج لهذه المنتجات، وبإغلاق المصنع نعلن إندثار أخر الصناعات الشعبية اليدوية، وتشريد أكثر من 30 أسرة أصبحت بدون عائد مادي.
وأشار إلى أن صناعة الخزف تمر بعدة مراحل حتي تصل لمرحلة التشكيل في القوالب أو على عجلة الفخار، ويديره الجالس بالقدم اليسرى فيلف معه فيقوم بتشكيل المادة ثم يتم التوقيع أسفل المنتج باسم القرية بالعربية أو الفرنسية أو الإنجليزية سواء بالكشط بعد الدهان أو بالكتابة على السطح الفخاري المحروق فهي تعني أنه “صنع في جراجوس” فأصبحت كعلامة منتج عالمي يسعي لاقتنائه الأجانب كذكرى من مصر الحضارة والتاريخ.
أضاف: أن المصنع كان في الماضي ينتج التماثيل سواء لشخصيات أو أشكال مجسمة عبارة عن جماد أو حيوان وبيعها للسائحين وكذلك أطقم الشاي والسفرة، أما الآن فقد تغير الحال وأصبح المصنع ينتج الأطقم فقط.. وعن طريقة، يقول أن المصنع يتكون من ثلاثة بنايات: الأولى منها للمعرض، والثانية لفرن الحرق، والثالثة لأعمال تشكيل الطين والرسم، حيث تبدأ طريقة التصنيع من مخزن الطين، بوضع الطين في أحواض متصل بها برميل مثبت عليه موتور يقوم بضخ المياه في البرميل الذي يتصل بثلاثة أحواض عن طريق مجرى حتى يترسب الطين في الحوض وتتكرر هذه العملية لمدة خمسة عشر يومًا، ثم يترك في الهواء حتى يجف من الماء، ثم يقسم إلى مربعات، ويؤخذ إلى مخزن الطين ويرش بالماء ويخرج من طاقة إلى حجرة التشكيل ويخلط الطين لمدة ساعة.
وأكمل قائلًا: عقب ذلك يتم التشكيل إما على هيئة تماثيل أو على هيئة دوائر تتم على دولاب، ثم يجفف حيث تقل نسبة الرطوبة في المكان بعشرة درجات نتيجة ثلاجة صناعية عبارة عن حائط مفتوح من الخلف وتحته حوض ماء به قطع من الفخار ويغمر الحوض بالماء، ثم يتجه الإنتاج نحو الفرن ليحرق على مرحلتين، المرحلة الأولى يخرج على لون البسكويت ثم يدهن ويرسم في حجرة الرسم ويرش ثم يعود إلى الفرن في مرحلة الحرق وهى الثانية لتثبيت اللون في درجة حرارة ألف درجة مئوية ثم ينظف من التراب ويعرض في المعرض تمهيدًا لبيعه للجمهور.
وأشارت ساندي إسحق يوسف – إحدى العاملات في مصنع الخزف وحفيدة أحد الشركاء – أنها كانت تعمل ضمن 25 فتاة للتدريب على تعلم المهنة من شيوخ الحرفة، مشيرة إلى أنه كان يتم انتاج أواني مطبخ وفازات متميزة، بهدف بيعها وترويجها في المعارض السنوية بجانب العديد من الأعمال اليدوية الأخرى التى تصنعها السيدات في المنازل من سجاد وطرح واكسسوارات بهدف تسويقها مع الخزف المنتج لتكون مصدر رزق للعديد من الأسر قبل أن يتم إغلاق هذا المصدر بإغلاق المصنع.
أضافت: أن هناك نوعان يشملهما العمل في صناعة الخزف أولهما في الأشكال الصغيرة والآخر في الأشكال الكبيرة، حيث تتمكن الفتاة من إتقان العمل في الصناعات الصغيرة مثل فنجان القهوة، براد الشاي، الفازات، أواني المطبخ، تقوم بتنفيذها بمساعدة والدها الذي يقترح عليها أشكال جديدة أيضًا أو تعديل في أحد الأشكال. لافتة إلى أن البداية تكون بجلب أحجار الطين من أسوان وتوضع في حوض به ماء ويتم تصفيتها حتي تصبح سائلة بإحدي الأحواض ولمدة تتجاوز الشهرين أو الثلاثة أشهر، ثم يتم تصفيتها من الهواء عن طريق الضغط عليها لتصبح جاهزة للعمل.
وذكرت: أن هناك نوعين من الدولاب الذي تعمل عليه، أحدهما يدوي والآخر بالكهرباء ويتميز اليدوي عن الكهرباء باستمرارية العمل حتي في وقت انقطاع التيار الكهربائي وكذلك التمكن من القطعة في اليد، لافتًة إلى أن تسويق المنتجات شهد كسادًا كبيرًا نتيجة تفشى وباء كورونا وما زاد الطينة بلة إغلاق المصنع لتواجه الصناعة شبح الاندثار، مطالبة بتدخل مجلس الوزراء لإيجاد حل عاجل من أجل الحفاظ على هذه الصناعة التراثية التى تشتهر وتتميز بها قرية جراجوس.
وقال مصدر داخل المطرانية – طلب عدم ذكر اسمه – إن مستأجرى المصنع قاموا بالتلاعب بالأفران بحجة التطوير ولذلك تم مقاضاتهم، مؤكدا أن المصنع وما بداخله من معدات مملوك للكنيسة ولذلك صدر حكمًا قضائيا لصالح الكنيسة، مشيرًا إلى أن المصنع سيتم تطويره عن طريق المطرانية، ولن يتم تغيير نشاط المصنع وسيتم افتتاحه بعد عمل دراسة وتطويره للحفاظ على صناعة الخزف من الاندثار.