بقلم د. ناهد الطحان
عندما يصبح الهم الانساني والمشاعر الانسانية المثقلة عنوانا لفضاء قصصي خصب تمتزج فيه اللغة الشعرية المكثفة بتصوير معاناة المهمشين وأوجاعهم ومحاولاتهم المستمرة للتحرر من عبث عالم متأزم يصارع الماضي والحاضر والمستقبل من أجل اعتراف لائق ووجود حقيقي …
اذ تغوص بنا الأديبة سعاد محمد في مجموعتها القصصية ( دمية خشب ) الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2020 ، منقبة في عتمات الروح وعذابات المستضعفين ، من قسوة الواقع وبراءة الحلم والرغبة في الخروج من شرنقة التنمر والضعف والاغتراب في شخص الأنثي التي تعاني اصرار المجتمع علي ترسيخ صورة ذهنية منسوخة من جيل إلي جيل ، صورة صماء تنسجم مع قناعاته ، في اشارة لعنوان المجموعة القصصية ( دمية خشب ) التي ترمز للغياب والاغتراب والضعف واختزال مشاعر واحتياجات الأنثي في قالب جميل ولكن بلا روح أو حياة ، وهو ماعبرت عنه الكاتبة في مجموعتها القصصية في العديد من القصص ، والتي عالجت فيها نماذج نسائية عانت من صور متباينة من التهميش واستلاب الروح والعبث بمصايرها .
ففي قصة ( عبد المتجلي ) تتنمر زوجة الأب علي ابنة زوجها الفتاة الثلاثينية وتوصمها بالقبح في يوم عيد ميلادها الثلاثين ، علي حين تمتدح جمال ابنتها وتتباهي بعرسانها في عنف موجه من المرأة ضد المرأة ، في الوقت الذي لايستطيع فيه الأب دفع الأذي النفسي عن ابنته التي بدأ الشيب يخط شعرها ، وعندما تقترح عليها احدي صديقاتها في العمل أن تنشيء صفحة شخصية علي الفيس بوك ربما تستطيع التعرف إلي أحدهم كعريس للمستقبل ، توافق مضطرة وتضع الصديقة صورة سعاد حسني كصورة لملفها الشخصي ، وبالفعل تتعرف علي أحد الشباب الذي يضع بدوره صورة لرشدي أباظة لملفه الشخصي ، وعندما تقابل الشاب الذي أغرته صورتها يتنمر علي قبحها بدوره ، علي الرغم من أنه يضع صورة رشدي أباظة كذبا هو الآخر وعندما تواجهه بكذبه وخداعه، يتعلل بأن المجتمع لايجرم قبح الرجال مثل تجريمه لقبح النساء ، حينها تشعر الفتاة بالانهزام والانكسار من غروره الذكوري ، وتقرر أن تنهي علاقتها بالعالم الأنثوي بعد أن أغلقت باب حجرتها، فتقص شعرها وتمزق ملابسها وتتخذ لنفسها اسم جدها الراحل ( عبد المتجلي ) وكأنها تعاقب نفسها وتتبرأ من جنسها وتتمرد علي واقعها ، بعد أن عانت مرارة التنمر ووصمة القبح رغم طيبة قلبها ونقاء سريرتها في تحد للمجتمع الذي اتخذ من الأنوثة ذريعة لقهرها ،اذ تقول الراوية : ( لم تتكلف الدموع في أن تملأ عينها التي ضاقت بها ، لو أنها ولدت ذكرا لاستقوت بنفسها ، ولتعكزت علي جنسها في حماية قلبها ) .
وفي القصة القصيرة جدا ( حادث ) نجد احدي فتيات بيع الياسمين تحاول عبور الشارع كي تكلل أعناق العاشقين بالياسمين فتصدمها احدي السيارات ويفوح عطر الياسمين في الأجواء ويختلط اللون الأحمر لون دمائها بلون زهور الياسمين البيضاء في تصوير بديع يشي بقسوة الواقع علي البسطاء في شخص فتاة الياسمين وبراءتها المتناهية التي جعلتها ضحية لمجتمع قاس
أما غرام الصحفية في قصة ( كسر حروف ) فهي امرأة عانت كسرة القلب وجحود من أحبت ، تجلس علي أحد المقاهي العتيقة والتي حملت بصمة التاريخ ، تبحث عن موضوع لجريدتها ، وتتأمل رواد المقهي في هدوء من المثقفين ومن طلبة المدارس والجامعات الهاربين ، ومن لاعبي الطاولة ، يلفت نظرها (نوسه ) بائعة الهوي الذي تلاعب بها أحدهم فأدركت أن لكل شيء تسعيرة حتي الحب ، فكرت غرام أن تجعل منها مادة لقلمها لكنها خافت وحشيتها فقررت استلهام قصتها من وحي الخيال ، تبتر غرام صورة حبيبها من الجريدة وصورتها وتعطيهما ل (النص) صبي القهوة ، عندما طلب منها ذلك حتي يعلم رواد المقهي أن للمقهي زبائن مشهورين بعد أن لمح صورتها في الجريدة ، عندها تتأمل غرام صورتها وصورة حبيبها المعلقتين علي الجدار العتيق كذكري علي أنغام صوت عبد الوهاب ( وهبت وجودي علشانه وعمري ما عشت لوجودي ، وكل ده وإنت مش داري ياناسيني وأنا جنبك ….) ، فتشعر بعطش قلبها الذي هجره حبيبها لتتأمل عوامل الزمن الذي شقق جدران المقهي كتشقق جدران قلبها ، وتمضي عطشي دون زاد علي حد قول الراوية ، في اشارة لمعاناة قلب الأنثي وضعفها الانساني ومشاعرها الفياضة وانكسار قلبها بعد أن هجرها الحبيب .
وفي قصة قصيرة جدا أخري بعنوان ( دمية ) وهو عنوان المجموعة القصصية ، تتأمل طفلة صغيرة دمية في فاترينة أحد المحال وهي ممسكة بجلباب أمها وباليد الثانية تشحذ العاطفة والقرش في اشارة للمعاناة والاحتياج من خلال اعجاب الطفلة الصغيرة بالدمية، وفي تماهي أيضا نجده في معاناة الطفلة التي ينظر لها المجتمع بلا اكتراث بمشاعرها الرقيقة وبراءة طفولتها وتهميش احتياجاتها .
أما الأم توحيدة في قصة (بيت من صفيح ) حيث يشير العنوان الي هشاشته وخوائه الانساني من العاطفة والروح ، فإنها تعبر عن مأساة انسانية تعاني منها توحيدة في عزبة الصفيح البائسة بما فيها من نماذج مهمشة ، اذ تخشي من زوجها مدمن الكيف فتخفي عليه جنس مولودتها الأنثي وتوهمه بأنها ذكر ، بعد أن عبث زوج أمها من قبل بجسد توحيدة ، وأثمر ذلك تلك الطفلة ، وعندما يطلب منها أن تعمل حتي تحضر له المزيد من المال الكافي لادمانه ، تترك الطفلة مضطرة ويعلم الزوج أنها أنثي فيعنف توحيدة ويضربها ، فتقرر الهرب من عزبة الصفيح وتلجأ الي بيت من بيوت الله تاركة الطفلة علي باب المسجد ، حتي لا تعاني ما عانته أمها ، في مغامرة غير محسوبة وفعل ميودرامي يخلو من المنطق ، اذ أن الطفلة يمكن أن تتعرض لمخاطر كبيرة محتملة .
القصة مؤلمة تكشف هشاشة المرأة في مجتمع المهمشين والبسطاء الذي حول جسدها الي ألعوبة في يد من لايرحم .. زوج الأم من ناحية وزوجها المدمن من ناحية أخري اذ تعاني في كلتا الحالتين مرارة ووجعا يطاردها ويطارد أبناءها وبالأخص الاناث وكأنه ميراث من المآسي المستمرة لا ينتهي .
وفي قصة ( باللون الأزرق ) اشارة للفيس بوك وعالم السوشيال ميديا الافتراضي ، اذ تنسج لنا الأديبة سعاد محمد عبر أدواتها السردية معاناة أخري للتنمر من خلال احدي الفتيات التي تعمل (عاملة حمام ) وتحاول استخدام حقها في معايشة الواقع الافتراضي فتنشر صورها وتغريداتها علي الفيس بوك ، كما أنها تختار في ذهابها وعودتها للعمل عربة الرجال في مترو الأنفاق أملا في شهامتهم في توفير مقعد لها ، وعلي الرغم من ذلك تتعرض للتنمر من احدهم علي الفيس بوك وهي بداخل عربة المترو عائدة إلي منزلها ، حيث يكتب لها قائلا ( عاملة حمام تزاحم الرجال في عرباتهم ، تعيش علي فضلات المجهولين .. تفوح رائحتك تكاد تخنق العربة .. انظري لذلك الشيخ الذي يجاورك علي أعتاب الاختناق .. لايعلم أن من تجاوره عاملة حمام لا تحصد سوي الفضلات ) .
وعندما تلتفت متوترة يردفها برسالة جديدة لا تقل تنمرا ، فتنهار وتشعر بانتهاك خصوصيتها وتنزل مسرعة من المترو وهي تبكي منكسرة ، وتقرر غلق الفيس نهائيا بعد أن تجرعت مر التنمر وذاقت مرارة العنف الاجتماعي .
ورغم قسوة المجتمع وتنمره علي المرأة ككائن رقيق في تلك النماذج السابقة إلا أن الأديبة سعاد محمد تهدينا قصة ( حبل غسيل ) وهي أجمل ما قرأت في المجموعة كلها ، حيث يرمز حبل الغسيل لطبيعة حياة احدي الأسر من خلال الزوجة وبناتها الصغيرات وزوجها الذي وصفته من خلال جلبابه المعلق علي حبل الغسيل بأنه ليس أكثر من ظل علي حبل تحتمي خلفه عباءتها ، حيث تقول الراوية ( باستسلام يحمله الهواء ذهابا وايابا .. يفرد جناحيه ويهبطهما مرة أخري .. يملأ قلبه الفارغ ثم يعيد تفريغه .. متآكل الرأس مبتور الأقدام معلق الكتفين ) .
ذلك الزوج/الظل الذي ندرك أنه عاطل لا يعمل عندما تخبرنا الكاتبة أنه يلتقط لفافة زوجته المالية التي وضعتها بحرص في محفظتها لطواريء الزمن كادخار، يلتقطها من داخل حافظتها في غفلة منها بعد أن خلت محفظته من المال ، وعندما تفكر الزوجة أن تمنح صغيراتها بعض السعادة لشراء الألعاب من هذه الأموال التي ادخرتها وتفتح حافظتها أمام صاحب المحل، لاتجد المال ، تبحث في كل مكان دون جدوي ، عندها تدور بها الدنيا وتعود إلي منزلها لتتفاجأ أن زوجها ترك رسالة بالانفصال ، تفتح نافذتها المعلق بها حبل الغسيل لتجد الزوج في أحضان جارتها السبعينية في النافذة المقابلة ، تتألم بعنف وتنزع جلبابه من علي حبل الغسيل وتتركه نهبا للهواء ليهوى أرضا معلنة وفاته وتقرر الاستغناء عن الرجال ( ارتدت جلبابا رجاليا .. خشنت يدها كما خشن قلبها ,, بترت حبالها تاركة واحدا يتصدر جلبابها وفساتين صغيراتها متلحفات بها ) ، في اشارة لوجع الروح وسطوة الواقع علي المرأة والذي يجبرها أن تنتفض لتقاوم وتدير حياتها دون عبث أو مراوغة، بإرادة قوية تجعلها تقوم بدور الأنثي والرجل معا اذا اضطرها الأمر، في مجتمع يفرض شروطه القاسية والتي لا تعترف بالضعفاء فيه ، وهو نموذج أحيي القاصة عليه لأنه يعبر عن قوة المرأة وتحريك لارادتها للذود عن كرامتها طفلة وصبية وزوجة وأم ، رغم ما يشير اليه من تخل عن طبيعتها الرقيقة الا أنه يؤكد علي صلابتها وقدرتها علي الحضور والتصدي لأية مواقف تواجهها .
هكذا تباينت ردود أفعال نماذج شخصيات سعاد محمد النسائية في مجموعتها القصصية ( دمية خشب ) عبر حالاتها المختلفة بين الضعف والقوة والرفض والقبول والحضور والغياب والتمرد والاستسلام، ازاء مجتمع طارد يفرز غروره وأنانيته علي الضعفاء غير القادرين علي المواجهة وتجربة القتال من أجل البقاء، مجتمع متنمر يسحق البسطاء والمهمشين، ليساوم علي كبريائهم ووجودهم الانساني المتعب، فيئن تحت وطأته الضعفاء ويصهر أفئدة الأقوياء ، عبر نصوص سردية نجحت الأديبة سعاد محمد في نسجها نسيجا يتميز بتكامل البناء وروعة التصوير وعمق اللفظ والمعني ومساحة رحبة من الابداع قادرة علي اشباع المتلقي .