رؤية – د. خالد محسن
بعد نجاح مجموعته القصصية ( مغترب مع سبق الإصرار) ،التي رصد فيها صور الغربة والاغتراب ،يطل علينا الأديب أحمد رفاعي آدم بقصته القصيرة (حكاية نخلة)، حيث يجيد الأديب فتح أفق الخيال ، الذي ينطلق من واقع نعايشه بما يحمل من أوجاع وطموحات، ثم تجسيد ورسم صور شخوص قصصه.
ويحرص علي توظيف مفرداته بلغة قوية في سرد ووصف ونسج خيوط الفكرة، محافظا علي إطار قيمي صلد كقاسم مشترك بغالبية أعماله .
يذكر أن الأديب الشاب يضع لمساته الأخيرة علي روايته .. (الحرزاوية..الأرض والعرض) قبل طباعتها قريبا.
🍁 قصـة قصــيرة
……………………..
🌴حكاية نخلة !
كانت كاعباً حسناء تبيع برفقة والدتها تحت صف النخيل الممتد على طول الترعة وكان مجلسهما تحت نخلتين متقاربتين يخرج من جذع إحداهما نخلة يافعة ساعدت على قدرها في التظليل.
وفوق الترعة الواسعة جسرٌ خرسانيٌ ضخمٌ يعبر من فوقه شريط السكك الحديدية وكلما مرَّ القطارُ ضجَّ المكانُ فانخلع قلب الصبية وطار الحمام والقمري وكثير من طيور أبو قردان البيضاء التي تعشش في سعف النخيل حتى إذا ما رحل واختفى في الأفق هدأت وعادت إلى أوكارها.
وكان حبها للمكانِ أصيلٌ نقيٌ ورباط الود بينهما متينٌ قوي. وشاء القدرُ أن تعصفَ الريحُ ذات ليلةٍ شاتيةٍ من ليالي عادٍ وثمودٍ فاهتزت النخلات وتساقط السعفُ والعراجين وتصدَّعتْ الجذوع، وبعد طول مقاومةٍ سقطت أطول نخلات المجلس وانكفأ رأسها في الماء غامساً بوزها في قاع الترعة الطيني. وقاومت النخلةُ الأمُ كي لا تسقطَ فتُهلك معها فسيلتها اليافعة ولكن أبت الريح المزمجرة إلا انكسارها فمالت على جانب الطريق مستسلمةً بعد أن انسلخت عن صغيرتها كي تُبقي على حياتها. ومر الليلُ كئيباً وطلع النهارُ وجاءت الصبية تهرول تسبقُ أمها المنهَكة من حمل سلة الفجل والجرجير فانفطر قلبها لمَّا رأت النخلتين ساقطتين وأشفقت على النخلة الوحيدة فاحتضنتها وجلست إلى جوارها تواسيها.
وحال الحول وخلا شاطئ الترعة من كثيرٍ من الشجر والنخيل وازدادت سرعة القطار وعلا ضجيجه.
وجاءت الصبيةُ يوماً تمشي وحيدةً تنوح وارتمت أمام النخلة الوحيدة تشكي فقدان أمها وقد أخذها القطار ذلك الصباح في طريقه إلى غير رجعة. كانت الأمُ عائدةً من الغيط الصغير حيث تزرع فجلها وجرجيرها وأثناء عبورها الشريط الحديدي عند المزلقان الخرِب فاجأها القطار بقسوته وأخذها ورحل. .وباتت الصبية وحيدةً تبكي حالها وتهفو إلى من كانت تمسح دمعها فغلبها اليأس فاستسلمت لحزنها. لماذا أيها الوحش الحديدي سرقت حضنها؟ ولماذا أيتها الريح الغاضبة حطمتي سترها؟ ولماذا قدرهما الوحدة بمرارتها؟.
وحال الحول من جديد وحان موسم جني الذكريات فأتت الصبية يوماً إلى النخلة، وفجأةً ظهر في الأفق ذئبٌ ذو نابٍ أزرقٍ ووقف فوق الجسر الخرساني أعلى الترعة وطالع الصبية بعينين جائعتين لا رادع لهما.. وعوى فجأةً فانتبهت إليه فسقط قلبها في رجليها وأسرع صوبها كالقطار المتوحش فداهمها أمام النخلة اليافعة التي لم يكن في وسعها شيءتفعله.
وبدأ الذئبُ الجائعُ يسعى لافتراس قلبها الثمين الذي سقط بين رجليها، وقاومت بشدة فهو أغلى ما ملكت يوماً وأثمن ما حمت دوماً لكن القطار مرَّ سريعاً فوق الجسر وغلب ضجيجه صراخها فلم يسمعه حيٌ ثم رحل القطار سريعاً كعادته ولكن قلبها لم يضطرب هذه المرة ولا طار الحمام والقمري وطيور أبو قردان البيضاء واستسلمت الصبية للذئب الذي أخذ يعوث فيها فساداً بغير وجه حق ووحدها النخلة اليافعة كانت شاهدةً وحاولت إسعافها.
وانتهك المفترسُ قلبَها الذي سبق وسقط بين رجليها وأسال دمه الطاهر على ضفة الترعة فبكت طويلاً ولم تجد يداً تمسح دمعها، وحال الحول وأضحت نسياً منسياً.
(تمت بحمد الله)