بوح السندباد مجموعة قصصية، مختارة من مجموعات للكاتب وائل وجدى.والعنوان ” بوح السندباد” إحدى قصص المجموعة، والبوح هو ما يجمع هذه القصص المختارة، فالسارد مهتم بالتحدث إلي الآخر، ومكاشفة ما بداخل النفس وتعريتها، هو بوح أسيان،
السندباد أحد شخصيات ألف ليلة وليلة “، السندباد البحرى والسندباد البرى، وما يروى عنهما من حكايات مشوقة ومدهشة، فالتنقل هنا ليس في المكان والزمان بقدر ما يتنقل بين أحوال البشر، وعلاقة السارد بهم، والمعاناة اليومية من علاقات يشوبها الحقد والحسد ونكران الجميل. الشخصيات تحلم وتعاني وتتأمل، وتأمل أن تكون لها حظوظها، لكن الإخفاقات، وتأثيرها علي الشخصية، تدفعها إلى الانطواء علي نفسها، وإن لم تفقد إيمانها بالآخرين، فالعالم فيه أخيار وأشرار.
من يعرف وائل وجدى عن قرب يجده فيما يكتب، ستجد المحامي الذى بدأ حياته العملية إخصائي شئون قانونية، وهو المحامي الذى يحمل أوراق القضايا، ويسرع إلي المحكمة ينتظر رقم القضية في ” الرول”، وهو الفنان التشكيلي الذى يرسم اللوحة، والمصور الذى يقتنص اللقطة.
يتنقل السرد في أكثر من قصة بين ضمير الأنا تارة، والضمير الثاني تارة أخرى، ومن ثم فهو يعطى السارد مساحة كبيرة في تعدد وجهات النظر لا تتسم بالتجرد أو الحيادية، بل هي رؤية تنسجم مع معطيات الشخصية وسماتها النفسية، خاصة أنها تحاول الخروج من الشرنقة، سواء أكانت جدران حجرة، أو قيود وظيفة، أو تذكر أحداث مؤلمة، تعاني الشخصية الوحدة ، فهى مكبلة بخيوط تشدها إلي عالم لا تريده.
في قصة ” كرسى خال” يتبدل صوت السارد بين الجالس علي المقعد وصاحب المقعد الخالي، يصير صاحب الكرسى الخالي هو البؤرة ، فنعرف عنه كل شىء بداية من ملابسات سفره، وانتهاء بمعاناته المرضية، البوح نوع من المشاركة الإنسانية التى تجعل المتلقي هو الآخر يتعاطف مع السارد، فالسرد هنا يؤدى وظيفة في البناء القصصي، بدونها لا نشعر بهذا التعاطف، والتحول في موقف السارد الأول تجاه الجالس بجواره.
قسم الكاتب مجموعته إلى بوح أول، وبوح آخر، يضم القسم الأول تسعًا وعشروين قصة قصيرة، أما الجزء الثاني فيضم واحدًا وثلاثين قصة قصيرة جدًا، تستوحى بعض قصصها مواقف من المجموعة الأولى.
القصص في عمومها منحوتة في أرض الواقع المعيش للإنسان البسيط، سقاها القلق الإنساني، يختلف التكنيك بين النظر إلي ذات السارد أو النظر للآخر، سواء زملاء أو أصدقاء أو عابرون، عبر وصف الحالة النفسية والمزاجية والعاطفية للسارد. ولا يمكن إغفال دور الطبيعة في تشكيل ذات السارد أو رد فعله، العودة إلي الطبيعة، التجول في الحديقة، أو الغيط، أو الجلوس تحت شجرة، الطفولة هي نبع البراءة، حيث البراح ومحبة الناس، حكايات الجد وصحبة أصدقاء الطفولة، الجلوس علي شط النيل، التجول في الشوارع .
يبرع وائل وجدى في استكناه الذات الإنسانية عبر الحوار والمناجاة والاستدعاءات، كأن الشخصية ترفض واقعها، وتهرب من أزمتها، بالعودة إلي الطفولة، هروبًا من الأزمة، أو السير في الشوارع الخالية من البشر.
إذا كان السارد يعاني علاقات بشرية معقدة، لا تعطى الأمان النفسى، فهو أيضًا يعاني من تحكم الآلة، والتقدم العلمي الذى أصبح الإنسان عبدًا له، فتتحول حياته وابتكاراته إلي ملفات تفقد بمجرد أن تغزو فيروسات الكمبيوتر الرئيسى للعمل، صداع مفاجىء، ينتشر في رأسى، ويهبط علي عيني:
، يا نهار أسود… تعب السنين راح”
القصة عند وائل شريحة، أو لقطة سريعة، قد تكون عابرة لا يلتفت إليها الإنسان العادى ، إلا أن الفنان يحملها دلالات متنوعة. في بداية قصة ” عروس البحر” يرسم لوحة من رمال البحر، والشفق، والرمال البيضاء، والمياه الفيروزية، حركة تتشكل منها لوحة تشكيلية، يقابلها تأمل حياة السارد في المدينة فهي ” المدينة الخانقة، وإيقاعها السريع، اللاهث، لينتقل السرد من الواقعي إلي الغرائبي، حينما يلتقي السارد بعروس البحر من مملكة المرجان بأعماق بحر الوادي السحيق. نكتشف أن اللقاء بين عروس البحر والسارد كان حلمًا يشى بالرغبة في ترك هذا العالم إلي عالم مغاير أكثر رحابة، فيعود إلي” البحر والمدى اللامتناهى “. تعبر القصة عن ثلاث حركات تبدأ بالجلوس أمام الشاطىء، فالحلم، ثم العودة إلي شاطيء البحر، وفي قصة “الهدية” يلعب الحل دورًا في النسيج السردى، سفر الزوجة للحصول علي درجة الماجستير من بلد أوروبي تاركة زوجها وطفلتها، إنها رمز للعلاقة الرومانسية بين الزوج وزوجتة، الزوجة تذكّر الزوج بهديتها، لكن الطفلة تكسر الفازة ، ونعرف أن الهدية الغالية التي تركتها الزوجة، ليست الفازة، بل هذه الطفلة التي تقرأ ملامح والدها، وتدرك مدى الضيق الذى يعانيه من سفر زوجته، هي الهدية الحقيقية التى يجب أن يهتم بها الزوج حتى تعود زوجته.
يمتاح السرد عند وائل وجدى من السيرة الذاتية، يتمثل ذلك في الأزمة المرضية التي عاناها البطل، والحديث عن مرض الأب، والعمل في أحد البنوك، واهتمامات السارد بالفن واللوحات، والتردد على المعارض، وزيارة المسجد النبوى، وممارسة هواية التصوير الفوتغرافي، ومعاناة من فقد الأبوين، كما في قصة ” فقد ” التي يهديها إلي والده “: إلي أبي محمد وجدى الصعيدى، واستعادة اللحظات الأخيرة قبل رحيل الأب، والحديث عن الفحوصات التي أجراها السارد علي عينه، والبحث عن الهدوء، بالسفر إلي مدينة مرسى مطروح، بالإضافة إلي تفصيلات العلاقة بينه وبين زملاء العمل إلخ، والميل للجلوس في البيت، والحديث عن علاقته بالشاعر الراحل عبد الله شرف، كما في قصة ” النجم المسافر” مرثية لروح الشاعر عبد الله شرف، تضم القصة ستة مشاهد سردية تنتقل بين محادثة هاتفية من السارد للشاعر عن قصيدته، ولحظات تلقي نبأ وفاة الشاعر، ثم ينهى السارد القصة بمقطع من قصيدة عبد الله شرف. كان اختيار المقطع موفقًا كنهاية للقصة، إلا أن الكاتب أضاف جملة ” وفاضت الدمعات”، كمشهد أخير في قصته، لكنها لم تضف شيئًا للقصة، وهذا يجعلنا نتحدث عن نهاية بعض قصص المجموعة التى جاءت مغلقة، لا تدع للمتلقي فرصة لاستنتاج دلالات أكثر رحابة مما أراده الكاتب، فقصة ” امتثال” تستحضر مشاهد روتينية، يعيشها موظفون، يلتقي بهم موظف جديد يلتحق بالإدارة، ” تخرج إلي شارع ” قصر العيني، تستنشق هواء عابقًا برائحة الانفلات من الروتين”، ويتغير المشهد بالخروج إلي الشارع، يحمل الانفلات المؤقت من أثر الروتين اليومى الذى سيعانيه الموظف الجديد.
التشظي سمة الزمن في قصص المجموعة، حيث يتداخل الآني مع الماضى ويسيطر الزمن النفسى مضفورًا بالحالة المزاجية للسارد، فالملل يتمطى في حياته عبر القلق، ورفض الآخرين الذين يقتحمون علي السارد وحدته.
تلعب المشهدية السريعة دورًا في تعميق الاحساس بالقلق والتوتر، البحث عن الهدوء لا يتأتى عبر التلاحم مع الآخر، بل بالعودة إلي الذات، الرجوع إلي البيت أو التمدد على السرير، أو تأمل أحوال الناس كما في قصة” قارب” و قصة ” رائحة الأيام”.
إذا كانت قصص مجموعة” بوح السندباد” تهتم بالشأن الذاتى فإنها لم تغفل ما يدور حول الشخصية من معطيات الواقع المعيش من قضايا لعل أهمها قضية الشعب الفلسطينى، واعتداء المحتل علي الطفولة، ووأد أحلامها، فالطفلة التى كانت تلهو بدميتها، في لحظة تأتى قذيفة تمزق جسدها، فيصير أشلاء.
يهدى وائل وجدى قصته” تباشير” إلي الانتفاضة الفلسطينية ” تصوير لحظة الاعتداء الصهيوني، وكيف توحدت الجموع تستقبل الشهيد الطفل وبيده الحجر لحظة ولوجه القبر ”
والحق أن الوعى بالقضية الفلسطينية ، وبالصراع العربي الصهيونى، سمة تلف الكثير من ابداعات الشباب وهي ظاهرة لافتة ومهمة فالإبداع – في المحصلة النهائية- تعبير عن بشر ومجتمع وقضية”
عبر السارد عن أزمة الوطن ومعاناة الشعب من الفساد السياسى والاجتماعى، فيصور لحظة انتفاضة الشعب، وخروجه للميادين، ومشاركة السارد المتظاهرين في الهتاف ” تحيا مصر”.
قد تعلو الغنائية في بعض القصائد كما في قصة ” عروس البحر”: نثار الموج يلفح وجهى، زخات الهواء البارد تنعش خلاياى ، البحر والمدى اللامتناهي يسربلانى.
” ينهي الكاتب قصته ” هدية “بعبارة: وقد أخذ السارد الهاتف” المحمول” من فوق المنضدة” والأوفق أن تنتهي القصة بعبارة ” سنتصل بماما الآن”.
يهدى القاص مجموعته إلي هناء محمد مطر، زوجته التى تمثل له مرفأ الحنان، فهى المحبوبة، وهي الحلم الذي طالم بحث عنه السارد في واقعه، ليقى نفسه من الوقوع في الضجر والقلق والوحدة وغدر البشر.
يختار وائل وجدي لغة سهلة، تعتمد علي قصر العبارة، لتكشف عن التواصل بالآخرين، وفقدان الثقة في بعض المحيطين به، لذا لانجد ظهورًا لافتًا لتوابع الجملة، إضافة إلي استخدام علامات الحذف، وأدوات الوصل، والجمل الاعتراضية، وتلعب الجملة الفعلية دورها في التسريع بالايقاع السردى.
مجموعة ” بوح السندباد” تمثل نموذجًا موفقًا لمراحل كتابة القصة لدى وائل وجدى، أثق أنها ستحدث تأثيرًا إيجابيًا لدى كل من الناقد والمتلقى.