زاملت زكريا صبح في مجلس إدارة نادى القصة لمدة تزيد عن خمس سنوات، لم يطلب فيها مناقشة أعماله، لكنه شارك في مناقشة العديد من الأعمال الإبداعية. لاحظت امتلاكه رؤية نقدية تحترم. يقرأ بدقة،ويرفض المجاملة، وإن اعطى العمل الابداعي حقه من النقد، والتقدير لجهد الكاتب.
كنت أسأل نفسى: هل يرقى نتاجه الابداعى إلي رؤيته النقدية، وملخصها أنه علي المبدع أن يضيف إلي المسيرة الابداعية، وأن يكون إبداعه إضافة جديدة وجيدة، بحيث يدفع كتابته إلى النشر؟
تملكنيتمازج الدهشة والإعجاب بعد قراءتي مجموعته” أحلام راقصة”،حتى أني فضلت قراءتهاقبل أن أطالع سيرته الذاتية.
تساءلت: لماذا يا زكريا تظلم المبدع في داخلك، بينما تستحق أن تقرأ، ويشاد بكتاباتك، وتنال الجوائز التى توزع باليمين والشمال.
أحلام راقصة” ترهص بأني سأقرأ كتابة مبهجة، فبين يدي أحلام وردية، لكن ما أن انتهيت من قراءة المجموعة، جتى وجدتنى أردد الآية القرآنية، ” خلق الإنسان في كبد”.
أين تلك الأحلام الراقصة؟
العنوان – كما تعلم – يمثل بنية سردية لها صداها، وتشى عن البنى الكبرى التى ترمز لها قصص المجموعة، الأحلام الراقصة تتحول إلي كوابيس، وأحلام مجهضة، وعوالم ضاغطة علي النفس البشرية، وتحمل القصص عبثا كافكاوىًا مازوشيًا، فالذات الساردةتعاني اغترابًا وغربة، هو غريب بين أحبائه:أسرته، وجيرانه، يكتفى بوحدته، يجترها، فيزداد عذابًا وألمًا.
نحن أمام مفارقة ضدية، توسع من هوة العلاقة بين الذات والآخر، والذات وصاحبها،الذات التى تمثل الفطرة والبراءة والنقاء، بينما العالم المحيط يتآمر، ويفتك بهذه الذات، ويحيلها شظايا، الذات التى سابقت الريح، وتعلقت بالسحاب، وركبت الموج، وسبحت في الرمال، وتصدت للسيل، وأزاحت الجبال، وصارعت الأسود” ولم تجن إلا الألم والانكسار والانهزام والاغتراب.
عند قراءتك المجموعة، تأخذك أمواج من التعاسة، تشعر بالأزمات النفسية الوجودية التي تلامس ما تحياه، فالسارد ليس بعيدًا عنك وعنى، السارد هو رجل يقتطع من حياته لحظة،يستعيدها من طفل يشعر بالحرمان من عاطفة الأبوة، يشعر الابن أن الأب خانه، وتركه وحيدًا في هذا العالم، وقد يجد في الليل أباه الذى رحل، لعله يكون رحيمًا به، لكن الليل يخونه هو الآخر، ليسلمه لنهار قاس وشاق، كما في قصة “عقد”.
يحاول الساردالمحافظة علي براءة لازالت داخله، غير أنهاتتعرض للمباغتة من الغدر، والخيانة، والجشع،والسقوط القيمى، والإيذاء البدنى، والنفسى، وكشف خفايا النفس، فيصير المرء مطاردًا من هواجس الخوف، والموت علي المستوى البيولوجى، أو المعنوى، وهو – في سبيل المحافظة علي فطرته النقية – يعود إلي الطفولة، يحتمى بها، فيجدها هي الأخرى قد تعرضت للألم والفقد، لكن ثمة نبتة صغيرة، غصن أخضر، لم يناله التلوث أو آفات الزمن والواقع. إنه الابن الذى يحافظ عليه مخافة أن تدوسه الأقدام، كما في قصة” صغيرى”. السارد كلما لبى مطلبًا للصغيريشعر بالسعادة” جلست قبالته،أرنوإلى عينيه الصافيتين وابتسامته العذبة، طفل صغير له شعر ذهبى، يصفف معظمه إلي اليمين، والباقي إلى اليسار، يشبهنى تماما، ” مبسوط يا حبيبى” جملة قالها الأب لابنه، لكن الرجل الذى أتى بالسندوتشات كاد يجن، هل لأنه لايوجد في هذا العالم إنسان سعيد؟ هل هناك أب يحدث ابنه بهذه العذوبة؟ هل فقدنا مشاعر الأبوة الحانية ونحن نواجه ضغوط الحياة؟.
ربما كل هذا. إنها القصة الوحيدة التى أفلتت من الألم والمعاناة والشعور بالوحدة، وتوحش العالم.
غالبية قصص المجموعة يحيا ساردها الأوحد في وحدة وغربة، سواء أكان في حجرته، أو بين أسرته، أو في البحر، أو في الطريق. ونهاية قصص المجموعة فاجعة إلا قليلًا، فالسارد يحلم بأن ساقه مبتورة، وأن عنقه مقطوع من الوريد إلي الوريد، يقطع القلب، ويؤكل جزءًا جزءًا، يأتي الليل ليلتهم النهار، ويبتلع البحر المسافر دون متاع، لكى ينجو الأغنياء، وتدهس الأحلام تحت عجلات السيارات، وتذرف الدموع المحبوسة، ويعلن موت الرجل بعد وصوله إلي المقبرة،، ويتشيأ الإنسان وتؤنسن الأشياء، لتشارك الإنسان محنته، وتحنو عليه، والمصابيح الصغيرة تخون المصباح الكبير، والعقل يغادر الدماغ، والليل يبرم عقدًا، يعلن فيه أنه بمثابة أب للسارد، والوحدة توضع في طبق، والقلب يصير طعامًا شهيًا للسارد، وجدران الحجرة وحدها تحنو علي السارد، فيطلق عليها صفات المساندة والمحبة إلخ، بينما يعاني جحود البشر، ويصاب الخوف بالرعب حينما يترك حجرة السارد بحثًا عن الانطلاق والحرية، فيعود أكثر خوفًا وارتعابًا مما رأى في الخارج، فيحنو عليه السارد،والقلب ينتزع من الصدر، والعيد يرحل ومعه الصغير وأبوه لمكان آخر يليق بهما.
إن فكرة التحول الدرامى ليست فقط في الأشياء، فالبشر يواجهون تحولات درامية قاسية، فالشحاذة صبغت الشمس جلدها، وتهرأت ملابسها في رحلة درامية، وصولًا لنهاية حتمية، هي الموت. حولها المجتمع إلي تمثال لراقصة باليه ينصب في الميدان تخليدًا لنضالها الشاق، بينما ترقبها امرأة أخرى تسير في الطريق.
قصص المجموعة حافلة بالمفارقات، فالحارس يشارك الرجل فقره، والبنات الثلاث كل واحدة تجد في الطيف ما يشبع روحها، ويتلاءم مع رؤيتها، والجميع يرون هذا الشفاف يلاحقهم في طريقهم،
القصص مراوغة الدلالة، فالقراءة لا تسلم لدلالة واحدة، ولا يقتنص المتلقى المعنى من القراءة الأولي، فالقصص ترتكز علي خبرة حياتية مكثفة، مكتنزة في الحكى، لا تجد زوائد أو ترهلات في الجملة، المعتمدة بشكل أساسى علي الفعل، وأثره في تسريع الإيقاع، إضافة إلي الاهتمام بالحركة، سواء الحركة الداخلية النابعة من الذات في محاولاتها التمرد ، أو الرفض، أو حتى الاستسلام ، أو الحركة الخارجية، المتمثلة في الاشتباك بين الأشياء الملموسة، وغير الملموسة، والبشر ونوازعهم الداخلية، كل ذلك يتأتي عبر تصاعد الأحداث التى تشكلها الأحلام والكوابيس والتوهمات، وجانب من الواقع المعاش، فالكاتب يلعب في مجالات كلها مشرعة علي المعنى والخبرات والتجارب والتحليل النفسى والفلسفى.
تحتل قصص ” أحلام راقصة” منطقة البرزخ بين الحياة والموت، فالموت يفرض نفسه بقوة، سواء أكان موتًا جسديًا، كموت الأب أو السارد، أو معنويًا في الأمل الذى يستند إليه السارد، كما في قصص “الحافة” و “أبخرة هاربة” “و” العقد” و” استيهام ” و” تسلل” و ” زفاف” ” تظلم “. الموت هنا ليس موتًا مجانيًا. إنه موت بطعم الحياة، موت يراد منه تحريك الساكن، وبث روح جديدة مستلهمة من إرادة الحياة، كما في قصة ” وجبة”: ” أفرغت دمى دفعة واحدة إلي جوفي، خلدت إلي النوم، ورأيت في حلمى من يجمع قلبى مرة أخرى لينبض من جديد”
لا يعنى ما سبق أن المجموعة منغلقة علي عالم كابوسى، عبثى، إنها تنفتح علي الواقع فتناقشه، تحدثنا عن معاناة الفقر، ووأد الأحلام، وضغوط الحياة، وانشطار الذات في محاولة لتلبية احتياجات الأسرة،. الكاتب يناقش مشكلات التعليم، سواء العام أو الخاص، والأب ماسح الأحذية الفقير يدرك أن ابنه ليس معه ثمن تلميع الحذاء، وحارس المول يشارك الرجل الفقير البرد والجيوب الخاوية، ورب الأسرة يتذكر بناته، كل تريد أن يلبى طلباتها، فيرجو الموت أن يتمهله. بل إن قصص المجموعة في مبناها السردى تعول علي المجتمع، والواقع المأزوم، وتشيؤ الإنسان وعجزه، أمام متطلبات الحياة، كما في قصة ” نبوءة” التي يهيمن فيها السارد علي الخطاب، لا يشاركه أحد في السرد، وهو يناسب الاغتراب الداخلى والتوجس من الآخر.
ثمة بعض الملامح مثل السارد الذى يتطابق مع الكاتب، حينما يصف ابنه، أو يتحدث عن أحلامه الإبداعية، كما في قصة” أحلام راقصة”، وهى أحلام تداعب كل كاتب/ فنان حقيقى يستحق الحصول علي جائزة، ” أنا أنحنى احترامًا وخجلًا، أجلس إلي طاولة جانبية، والناس تصطف أمامى، كل يحمل نسخة من احدث إصداراتي التي فازت بجائزة عالمية”، لكن هذه الأحلام تصطف مع سابقتها لتصير كابوسًا بعدما وئدت، ودهستها السيارات وأقدام المارة!
قصص المجموعة تشكل متوالية قصصية، فالسارد واحد فى كل القصص، ويشيع فيها جو كابوسى، وثمة نزعة مازوشية قاسية تصب غضبها علي السارد دون غيره، وتتأنسن الأشياء ويتشيأ الإنسان، فيصير مثل حقيبة متاع، وقصص المجموعة مترعة بغنائية آسيانة، تتحاور مع الذات، وتوجه اتهاماتها للآخر، ويفقد الإنسان صلته بالآخرين الحميميين، فالزوجة هى امرأة لا تعير اهتمامًا بما ينجزه الزوج، والبنات الكبرى، والوسطى، والصغرى، والإبن الصغير، كل له متطلباته المادية التى تثقل كاهل السارد، وتجعله دائم التفكير.
المكان يرتبط بأزمة السارد، وبخاصة نوازعه النفسية، فالحدث محصور بين جدران حجرة، أو في مول ، أو في محل للعب الأطفال، أو محل للمأكولات، أو داخل مقبرة، أو سفينة. ويقل وصف المكان طبوغرافيًا، بينما نلمح المكان كفضاء ومدى.
أما الزمن فيتعدد بين الماضى البعيد، والماضى، والحاضر، والمستقبل، قد تنبىء جملة واحدة عن التغير الزمنى في رشاقة.
الجملة قصيرة، لكنها في بعض الأحيان تصقل بملحقات لديها القدرة علي تأكيد المعنى، الجملة لدى الكاتب تحمل زخمًا واكتنازًا دراميًا، ومن هنا قد تطول الجملة لكنها لا تصاب بالترهل، مثل قصة ” الحافة”، وقصة ” وبعض مما لديها”
لعلي أرجو أن يتخلص الكاتب من ظاهرة الكنكنة، ممثلة في كان وأخواتها، فضلًا عن أنه يستخدم أدوات النفي والاستفهام بشكل كبير، بما قد يتلاءم مع الحيرة والتعثر والقلق الذى تشعر به ذات السارد.
يمثل الايقاع السردى ملمحًا مهمًا في هذه المجموعة، حيث تتسارع الأحداث، رغم أن الكاتب يستبطن الداخل، ويقيم حوارًا غنائيًا، كما أن الايقاع الدرامى يتسارع، فيعطي أثرًا في نفس المتلقى كما في قصة” أمل” و قصة” التمثال الراقص” .
أحلام راقصة مؤشر واضح علي أن الكاتب زكريا صبح أفاد من دراسته للفلسفة، وعلم النفس، ومن مشاركاته الكثيرة في الملتقيات النقدية. ويمكن القول إن المجموعة تعزز مكانة الكاتب بين أدباء جيله.