بقلم ✍️ د. السامحي عبدالله
(إمام وخطيب بوزارة الأوقاف)
دَاءٌ من الأدْواء، ودواؤه في نِداء!! فالدَّاءُ هو مرض القلوب، والدواءُ في الاستجابةِ لِنداء الحق –سبحانه وتعالى- للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال: 24)، ولِمَ لا يستجيبُ المؤمنُ؟! ففي استجابته الحياة القلبية، وفيها الحياة الأبدية والنعمة السرمدية، لذا؛ فالمؤمن إذا دُعِي إلى حكم الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- ما يكون منه إلا السمع والطاعة؛ السمعُ لما قِيل، والطاعةُ لمن دعاه إلى ذلك الحُكم، قال ربُّنا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(النور: 51).
واسمحوا لي أن أُسلِط الضوء على بعض البلايا؛ التي ابتُلي بها بعضُ التجار؛ كالغش والاحتكار… والتي غالبًا ما يكون الدافع إليها مرضٌ من أمراض القلوب؛ ألا وهو الطَمع!! والذي لا ريب في كون دواء ذلك الداء يكْمُنُ في هذا النداء.
فأنت أيُّها التاجر؛ في نعمة من الله وفضل، فهذا ابْنُ مَسْعُودٍ –رضي الله عنه- يقول: “أيُّما رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا إلى مَدِينَةٍ مِن مَدائِنِ المُسْلِمِينَ صابِرًا مُحْتَسِبًا فَباعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كانَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الشُّهَداءِ، وقرأ قول الله –تعالى-:{وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ}(المزمل: 20).
وأنت أيُّها التاجر؛ كسبُك من الكسب الطيب الذي حثَّنا عليه الإسلام، فقد سُئِلَ رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم-: ” أَيُّ الكسبِ أطيب؟ فقال: عملُ الرجلِ بيده وكلُ بيعٍ مبرورٍ”(أخرجه الإمام أحمد)، والبيع المبرور: ما ليس فيه غشٌ، ولا خداعٌ، ولا يخالف الشرع.
وجاء عن عمر –رضي الله عنه- أنه قال: “ما من مكانٍ أحبّ إليَّ أنْ يأتيني فيه أجلي بعد الجهاد في سبيل الله إلا أنْ أكون في تجارةٍ أبيعُ وأشتري”، وقد أخذ هذا المعنى من قول الله –تعالى-: {وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ}.
ولقد عمِلَ رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- بالتجارة، فأمُّنا أمُّ المؤمنين خديجةُ –رضي الله عنها- كانت امرأةً تاجرةً ذات شرف ومال، فلمّا بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها، من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا، وتعطيَه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامُها ميسرة إلى الشام.
كلُّ ذلك الشرف الذي نراه جليًّا في تلك النصوص؛ ونراه أيضًا في بشارة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- التي ساقها إلى التاجر الأمين في قوله –صلى الله عليه وسلم-: ” التاجرُ الصدوقُ الأمينُ مع النبيين والصديقين والشهداء”(أخرجه الإمام الترمذي)، يجعلنا من باب التذكير – فإنَّ المؤمن إذا تَذَكَّر انْتَفَعَ، واستجابةً لقول الله –تعالى-: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(الذاريات:55)- نوجهُ نداءً إلى التاجر؛ قائلين:
أيُّها التاجر… ينبغي لك أن تتحرى الحلال في كل معاملاتك، وأن تكون أمينًا في البيع والشراء، وإياكَ؛ إياكَ وحرمةَ الاحتكار، وإياكَ؛ إياكَ وحرمةَ الاستغلال، وإياكَ؛ إياكَ وحرمةَ أكلِ أموال الناس بالباطل، استجابةً لقول الله- عز وجل-: {يَأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}(النساء: 29)، ولقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: ” كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه، ومالُه، وعرضُه”(أخرجه الإمام مسلم)، ويقول النبي –صلى الله عليه وسلم-:” الجالبُ مرزوق- أي التاجر مرحوم مرزوقٌ يحصل على الرزق من غير إثم – والمحتكرُ ملعون)”أخرجه ابن ماجة).
أيُّها التاجر… ينبغي لك أن تبتعد كلَّ البعد عن الغش -بكل صوره-، ومن أنواع الغشِّ في البيع والشراء: تطفيفُ الميزان؛ فأَحْسِنِ الكَيْلَ –أيُّها التاجر- ولا تكُنْ من أَهْل الْبَخْس والتطفيف؛ استجابةً لقول الله –تعالى-: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}(هود: 84)، وكذلك التدليسُ وكتمانُ العيوب، “فقد رُوِيَ “أنَّ رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- مَرَّ علَى صُبْرَةِ طَعامٍ فأدْخَلَ يَدَهُ فيها، فَنالَتْ أصابِعُهُ بَلَلًا فقالَ: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ قالَ أصابَتْهُ السَّماءُ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: أفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعامِ كَيْ يَراهُ النَّاسُ، مَن غَشَّنا فليسَ مِنِّا”(أخرجه الإمام مسلم).
أيُّها التاجر… ينبغي لك أن تُسامح وأن تَعفو، وأنْ تكونَ رحيمًا في بيعك وشرائك، فتلك صفة المؤمنين، قال ربُّنا: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(الفتح: 29)، ويقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: “رَحِمَ اللهُ رجُلًا سَمحًا إذا باعَ، وإذا اشْترى، وإذا اقْتَضَى”(أخرجه الإمام البخاريّ).
وفي الحديث حثٌ على السماحة في المعاملة، وتركِ التضييق على الناس، وذلك بعدم المغالاة في الربح من البائع، وعدم الإكثار في المساومة.
وما أجمل ما قاله الإمام الشافعيُّ –رحمه الله- في فضل السماحة:
وكن رجلا على الأهوال جلدا
وشيمتك السماحة والوفاء
وإن كثرت عيوبك في البرايا
وسرك أن يكون لها غطاء
تستر بالسخاء فكل عيب يغطيه كما قيل السخاء
ولا ترج السماحة من بخيل
فما في النار للظمآن ماءُ
نسأل الله -تعالى- رحمة يهدي بها قلوبنا، ويصلح بها أحوالنا، كما نسأله –سبحانه- أن يجعنا ممن قيل فيهم: {رحماء بينهم}، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.