في قصته” مذكرات أحد الناس” يعيب ديستويفسكي على من يقحم نفسه فيما لا علم له به، بأنه ينصب نفسه أخصائيًا في شأن تغيب عنه أسراره. وعلى حد قوله، فإن المدنيين يعشقون الاهتمام بالشئون العسكرية، والمهندسون يعشقون الاهتمام بالفلسفة والاقتصاد السياسي.
لعلي أضيف عيبًا آخر لافتًا، هو أننا نحيل إلى القضاء والقدر ما فى نفوسنا – أحيانًا – من ميل إلى التقاعس والتواكل، وانعدام الإقبال على المعرفة، والسكوت عن الأخطاء، والفشل فيما نهمل صنعه.
أعيب على ثقافة التبرير تزييف الحقائق، وإلباسها أردية لا تصلح لها. من يليق به لباس السجن لا يحق له ارتداء ثياب الناس العاديين. من يسخر قلمه للدفاع غير المبرر عن تصرفات “المسئول” لمجرد أن هذا هو دوره، ينبغي أن يواجه تهمة المحرض على جريمة القتل. عقوبته – كما تعلم – مساوية لعقوبة القاتل. ما أعيشه خلا من كل شيء، حتى ثقافة التبرير: الجوقة التي تمارس النفاق والممالأة بالثناء على تصرفات مجرمة في حقوق الناس.
تتحدث أنعام كجه جي في روايتها” النبيذة” عن ابن الشيخ الذي ورث نفوذًا لم يعرف كيف يتصرف فيه. راح يبدده في فنون الشر. يبتكر أنماطًا في الإزعاج والانتهاك والترويع، ودون أن يطلب، منحته الحاشية مركز أستاذ، وتكاثر المنافقون ذبابًا في كل زمان ومكان ” يبصق أحدهم لبان المراوغة في فم زميله، يعلكه الثاني، يمضغه، يمطّه وينفخه فقاعة كبيرة في وجه الأول. تنبت شحرة الخديعة في منتزه الزوراء، أكبر حدائق المدينة. يعكف خبراء النباتات النادرة على ترقيد جذورها، وتكثيرها. تمتد الأغصان والفروع، وتغطّي حدائق المنازل في بغداد. تبلغ حقول القمح في الشمال، وغابات النخيل في الجنوب. تلوّث قصب الأهوار. تظهر في البلد قبيلة جديدة: بنو نفاق”
أخطر ما في الظاهرة أن المرء الذي يكتب ما لا يؤمن به، ويبرره، ويدافع عنه، سيحتويه ما يصفه العلم بالاغتراب. يغترب عن الجماعة، وعن نفسه، لأن كتاباته – يدرك هذا جيدًا – تصدر عن مصلحته الشخصية، أو عن مصلحة الجماعة التي تبرر كتاباته أفعالها بصفة عامة.
إنه على استعداد لتقديم المبررات، حتى لو لم تكن حقيقية، يجيد تبرير ما حدث، بصرف النظر عن اقتناعه الشخصى أم العكس، وحتى بصرف النظر إن كان ما يدافع عنه فى سياق ما يؤمن به، يستعيد مقولة ميكافيلّي: يجب – في أحيان كثيرة – تسخير الكلمات لإخفاء الحقائق، لكن من الواجب أن يتم ذلك بطريقة لا يلحظها أحد. وإن لم يكن هناك بد من أن يلحظها أحد، فلابد أن تكون المحاذير حاضرة، حتى يمكن تقديمها بصورة آنية.
أذكر صديقًا يمتلك حصيلة معرفية وافرة، كان يعتز بأنه يستطيع أن يدافع عن المعنى ونقيضه، يدافع عن رأى ما، ويدافع – بالبراعة نفسها – عن الرأى المخالف، ويقدم – فى الحالين – أدلة وبراهين تنتصر للرأى الذى يدافع عنه.
هو – على سبيل المثال – يتحدث عن جرائم العهد الملكى، واختصار حياة المصريين إلى مكافحة الفقر والجهل والمرض، واعتبار التخلص من الحفاء مشروعًا قوميًا ، وسيطرة الإقطاع ورأس المال على حياة الغالبية العظمى من المصريين، وهو – فى المقابل، وفى ظروف مغايرة – يتحدث عن الملك الذى تحول إلى عدة ملوك بعدد أعضاء مجلس قيادة الثورة، ورفاقهم، وتابعيهم، ثم عودة الإقطاع وسيطرة رأس المال بأشرس من السابق. ويرى أن الشيطان الذى نكرهه، ونستعيذ بالله منه، يفيدنا فى دوام التنبه إلى ما نفعله، والتفرقة – فى سلوكياتنا – بين الصواب والخطأ .
قد تأتي الكلمات مناقضة لما يؤمن به الكاتب، سعيًا لتحقيق مصلحة شخصية، أو مصلحة طائفة، أو طبقة، أو أيديولوجية، ينتصر لها. تعلم من ميكافيلي أن يسخر الكلمات – في أحيان كثيرة – لإخفاء الحقائق، على أن يبين ذلك بطريقة لا يلحظها أحد. وإن لم يكن هناك بد من أن يلحظها أحد، فلابد أن تكون المحاذير حاضرة، حتى يمكن تقديمها بصورة آنية. ونتذكر – بالضرورة – قول سقراط إنه من العبث أن يعرف الإنسان المعارف لذاتها.
أعيب على المثقف التبريري أنه يختار الكلمات الجهيرة والزاعقة، لو أنك نبشت ظاهرها بمداخلة أو سؤال، فسيروعك خواء باطنها. لا يثبت على رأي واحد، فهو يدافع عن رأي ربما خالفه من قبل، ويبدل رأيه في الجلسة الواحدة، وقد يبدل رأيه – ثانية – لحساب وجهة نظر اجتذبته مغرياتها. وربما صدرت كلماته عن رغبة في إرضاء الجميع، دون تنبه إلى تضادها مع قناعات الكاتب، فهو يخضع آراءه – في الأغلب – لحساب جماعة أو فرد، لا صلة لذلك بقناعاته الشخصية، إنما هي “مرافعات” متناقضة لا رابط بينها إلّا استهداف مصلحة شخصية، أو مصلحة طائفة، أو طبقة، أو أيديولوجية، ينتصر لها. يتحول إلى فرد في جوقة تمارس الممالأة والنفاق بالثناء حتى على الجرائم في حق الآخرين.