نجح اليهود في توجيه الشعوب وإدارتها بفلسفة وبمنهج معين عن بعد، من خلال إدارة عقول رجال الدين ! لأن رجال الدين يستبعدون العقل خشية أن يصيب إيمانهم بعطب..
ومع الباحث الدكتور محمد مبروك نتعرف علي مصر الأخري .. من خلال دراسته الموسوعية ( مصر الأخري..التبادل الحضاري بين مصر وإيچبت) والتي صدرت عن دار “ض ستور للنشر” في ثلاثة أجزاء في محاولة بحثية جادة لتدراك أخطاء تاريخية ومفاهيم غرستها أياد خبيثة للنيل من ترات وهوية وأصالة مصر المحروسة.
وفي إطار حرص منصة المساء والجمهورية أون لاين علي متابعة أحدث الدراسات والأبحاث العلمية، وتقديمها لقرائها نعرض سلسلة من الحلقات بقراءة عصرية متفحصة وبرؤي مؤلف الموسوعة.. في هذه السطور.
والحلقة الرابعة بعنوان ”الغزو الثقافي اليهودي في عهد بطليموس (2)”
الغزو الثقافي اليهودي في عهد بطليموس (2)
ربما كان بطليموس يريد أن يجعل من هذا البلد مركزاً إشعاعياً للعالم كله، لكن تدخل اليهود في السياسة جعل هذا الإشعاع مُسمماً للعالم كله وعبر التاريخ كله .. فلم يقتصر التزوير على حشر اسم ” إيجبت” مكان مصرايم في نص التوراة المترجم بدعوى ظاهرها تقديس اسم البلد ومنه البركة، وباطنها تلبيس تاريخ مصرايم الملوث لإيجبت وخداع العالم.. بل إن الأمر كان أكبر بكثر ، فقد قرروا إدارة العالم كله بسياستهم وصبغ عقولنا بالبداوة والجلافة والمادية الوقحة.. فاليهود مهما تمدنوا تظل البداوة والمادية والخُبث متأصلاً في نفوسهم، ومع ذلك كان الباب الذي دخلوا منه روحانياً بدرجة مذهلة..وهو(قصص الأنبياء) ! .. وأما حُراس الباب فهم الكهنة المسلمون والمسيحيون ..
فقد غرسوا الكثير من القصص والحكايات والأفكار الفلسفية التي تبتعد كلياً عن موضوع الجغرافيا والتاريخ، وهذا ما يؤكد نية العبث بالتوراة لترسيخ أفكار بعينها في عقول البشر وتركها لتنمو وتترعرع، وفي الحقيقة لم يكن ذلك عبثاً من وجهة نظرهم، بل توظيف جيد لنصوص التوراة.
فيؤكد فريق من الكُتاب الغربيين أن تلك الترجمة السبعونية احتوت مقاطع لم تكن موجودة في الأصل، مثل موضوع خلق المرأة من ضلع آدم، والذي ليس له وجود في الأديان مطلقاً، وإنما أوجدته التوراة المزورة.. حيث أن مجرد تحويل أصل الخلق على يد الله من ذكر وأنثى متساويان في القيمة والكرامة الإنسانية إلى أسطورة خلق أدم منفرداً وتسويته في أحسن صورة ثم اشتقاق حواء من ضلعه الأعوج، أي أنها (شيء – ثانوي – معوج الخِلقة)، فجعلوا بذلك الإنسان أصلاً ذكورياً، ثم رسخوا فكرة خروج آدم من الجنة بسبب خطيئة منها وإغواء !..
وصبو لعناتهم عليها باسم الإله، قالوا أن اسمها حواء لأنها تشبه الحية !، وقالوا أن الله لعنها وكتب عليها آلام المخاض المبرحة لتكفر عن ذنوبها وآثامها، أي حولوا المرأة إلى كائن شيطاني وحملوه كل ذنوبهم! وكل ذلك محض افتراء منهم وتجسيد لعلل نفوسهم المريضة بفكر البداوة والجلافة، إذ أن الأمر ليس حصراً على المرأة وإنما يجسد علة الاستعلاء والاستقواء على الضعيف وقهره .. والغريب أن كهنة الإسلام راق لهم بعض هذا الفكر واستحسنوه وأقنعونا به فحولونا نحن إلى البدوة بفكرٍ معوج بقدر اعوجاج النفسية اليهودية ..
هذا الأمر لا يمكن أن يحمل فقط المعنى الحرفي للعبارات، وإنما يحمل فلسفة ثلاثية الأبعاد تبنتها الصهيونية عند وضع الترجمة باعتبارها بذور فكرية ستنمو في المستقبل بالمواصفات التي طلبوها !، فكأنهم يعترضون على طريقة خلق الله للإنسان، ويتحدونه (جل وعلا) ويطمسون كلامه ويضعون نظريتهم في الخلق لتسود العالم !
والغريب أن القرآن نطق صراحة ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى “، ومع ذلك نجد جميع الكثير من المسلمين والمسيحيين عبر العصور قد ركنوا العقل والتعقل جانباً وتبعوا كهنة اليهود في أفكارهم الشاذة التي سطروها في التوراة كأساس لخلق الإنسان، وبذلك نجح اليهود في توجيه الشعوب وإدارتها بفلسفة وبمنهج معين عن بعد، من خلال إدارة عقول رجال الدين ! لأن رجال الدين يستبعدون العقل خشية أن يصيب إيمانهم بعطب..
فقد جعلوا من شخصية أحادية (آدم) أصل للآخر (حواء)، على اعتبار أن حواء ليست إنسان كامل مثله وإنما فضلات أو زوائد متفرعة عنه.. وهذا يجسد العقلية البدوية الذكورية التي تنظر للمرأة نظرة العبيد تباع وتشترى للخدمة المنزلية وموئلاً للنزوة .. وقد أفاض كهنة الإسلام في تجويد هذا الفكر الصهيوني. هذا الفكر البدوي الجًلَفْ هاجر من أدغال الجبال اليمنية على أكتاف اليهود وحط رحاله في بيوت الكهنة وامتلأت منه الكتب والمدونات حتى صار أصلاً للفلسفة وعلم الاجتماع ! ونهل منه الكهنة حتى أسكروا عقول الشعب !
بل إن كهنة المسيحية ابتدعوا بدعة هي الثمرة المثلى لهذا الفكر، إذ أنهم اخترعوا الرهبنة في القرن الرابع ميلادي، ويفتخرون الآن بتصديرها من مصر إلى العالم !، على سند من القول أن الترهبن والاعتزال في جحرٍ أو كهفٍ والتطهر والتفرغ للتقرب من الله لا يكون إلا باعتزال المرأة ! والامتناع عن ممارسة الحب باعتباره رجس ينافي التطهر ! برغم أن ذلك كله خرافات منافية للعقل والمنطق وحتى ضرر على الصحة النفسية، فالله خلق الكائن الحي من ذكر وأنثى ليتقارب ويتناسل ويثمر، وخلق الزهور من جنسين وتوجها ببتلاتها الجميلة كي تتقارب وتتلاقح، فأي رجس في هذا ينفر منه الإله !
أما بعض المسلمين فقد اعتبرو المرأة أشبه بالحمار والكلب ومرور الشيطان أثناء الصلاة، وأنها ذات كيدٍ عظيم ! وكأن الصهيونية ذاتها ليست من كيد الرجال وحدهم ! بل ونظروا إليها بوعي طفولي يؤمن أنها محض جسدٍ مثير للفتن والغرائز الشيطانية وأن حياتها كلها مُسخّرة لإشباع احتياجاته، وأن عليها أن تتوارى لأنها عورة . وانتهوا بالقول أنها ناقصة عقلٍ ودين.. حتى أن العشرة المبشرين بالجنة ليس فيهم أنثى واحدة من زوجات النبي وبناته ! وكل هذا الفكر نبت من بذور الصهيونية الأولى عند صياغة فكرة الخلق والتكوين الأساسي وتصوّرها في العقلية البدوية، إذ تقوم حياتهم على الطبقية السادية، فهذه العقلية لا تعرف سوى الجنس والمال والعبيد، وثقافة الأسياد والعبيد قد صاغت نظرية الخلق باعتبار أن حواء خرجت من ضلع آدم الأعوج، وأنها صاحبة الخطيئة الأولى! وهذه التخريجة الفلسفية انتهت بمصير المرأة إلى أن صارت محض متاعاً ذكورياً..
وهذا ما يبرز لنا بجلاء أثر الثقافة البدوية ودخولها وسيادتها على مجتمع مدني، حينما تضعف قواه العقلية وتصبح مقاليد الأمور الاجتماعية بيد الكهنة الذين يدعون صون الأخلاق، فتنتهي الأمور بكارثة أخلاقية ..
إن الترجمة السبعونية للتوراة لم تكن مجرد تلاعبِ بالتاريخ والجغرافيا واستبدالٍ لأسماء بلاد بأخرى، بل كانت عملية حقن مجهري لثقافة الجلافة والبداوة اليهودية في رحم المجتمعات المدنية بهدف تدميرها والقفز عليها ..
——————
* يتبع في حلقات أخرى .