منذ بدأت قطرات المطر الأخيرة في الاتساع ، وبدأت زرقة السماء في الانعكاس ببطء على النافذة ، انبثق نداء أول بائع لليانصيب.
استيقظت باكرًا كالعادة، أشعلت سيجارة، رميت بعلبة الثقاب الفارغة ،
تأخرت في تحضير نفسي لأكون موجودا٠
ظللتُ أتنقل من جانب إلى آخر في الغرفة وأحلم بصوت جهير بأشياء خالية من أي ترابط أو إمكان، ركلت الباب برجلي بعد أن أطلت النظر في المرآة.
من الانشغالات الثابتة المستحوذة على تفكيري سعيي إلى حقيقة وجود أناس غيري، وأن هناك أرواحا غير روحي، وضمائر غريبة عن ضميري وهذا لابد من اعتباره وعيًا، أن يكون” أنا”متفردا- وفق تصوري- أدرك تمامًا وجيدًا أن الرجل الموجود أمامي والمتحدث بكلمات مماثلة لكلماتي هو” أنا”.
لدي رغبة في الصراخ داخل الرأس أريد أن أوقف! أن أُسحق، أن أحطم تلك الأسطوانة “الغراموفونية” الصامتة التي تصدح بداخلي.
تلك الأسطوانة التي كلفتني أن أبقى في قاعة الانتظار العاطفية هذه.
أن أتقدم في نفس المسار -أي الدخول في المجال المغناطيسي للحب- حيث تبدأ المغامرة وحيث تنتهي.
لكني فشلت اأكتشفت إن ماتزرعه المُخيلة ذاتها مُنتهك دومًا بما تزرعه الحياة!. وإذا كانت العظمة الكامنة في تراجيديا الحب تبقى فإن تجربتها مع شخص آخر أمر مزعج.
أخيرًا، سيفرحني لو توصلت إلى إقناع نفسي بأن هذه النظرية ليست هي ماهي، لأجل ألاَّ أعير انتباهي إلى أنه ليس ثمة في العمق من شئ سوى كآبتي وعدم أهليتي للحب
لأول مرة في حياتي أشتاق للقهوة التركي فور استيقاظي من النوم.
إلا أن تلك القهوة فارت وأحدثت فوضى بالموقد-أول وقائع سوء الحظ باليوم-
ثم تمزق بنطالي المُفضل.
وأخيرًا وليس آخرًا، أصطدمت سيارتي” البيجو موديل ٧٩” بسيارة “بسات صفراء اللون” وبطبيعة الحال لم تصب تلك السيارة الصفراء بأي ضرر، على حين أصيبت سيارتي بأضرار جسيمة، ناهيك بالجروح التي لطخت وجهي.
لم تكن سرعة السيارة الصفراء تتعدى الثلاثين كيلومترًا في الساعة عند الاصطدام. لكن حالة تلك السيارة جعلت الأمر يبدو وكأنها نجت للتو من اختبار تصادم.
وقعت الحادثة اثناء تفتيش تلك السيدة صاحبة “البسات” في حقيبتها عن هاتفها الجوال ، ومن الطبيعي لمن تقضي ربع وقتها في البحث عن الهاتف أو النظر في المرآة لتتأكد إن حاجبيها متناسقان تمامًا، أن تواجه سوء حظ مماثل .
فتحت سيارتها ومدتْ رجليها البيضاوين تحت قاعدة إبريزية، والقائمتين على حذاء ذى كعب عالي. رسمت على وجهها الغضب ونظرت نحوي وقالت : أيها الضرير!! ثم ركبت السيارة ومضت .
الحظ لحق بها شرطي المرور واستوقفها.
لن يجرؤ عاقل على العبث مع امرأة في مثل هذا الجمال .
سألها الشرطي عن رخصتّي القيادة والسيارة.
أخرجت من شنطتها السوداء ذات اليد الذهبية بعض النقود ووضعتها في يد الشرطي، وقالت له : أعطيهم لصاحب هذة القطعة الحديدية.
نظر إليّ الشرطي وكأنه يقول انزل من السيارة وابصق عليها.
أقتربتْ منها وأنا بكامل غضبّي، لم أستطع الكلام مطلقًا،
عيناها تحتوي جسدي كله، و أنا أتهته في الكلام من فرط ال…..
وكأن تقفُ على لساني ذبابة كهربائية.
وتحت وطأة الرغبة الحارة قلتُ في نفسي ” لنلعب الحِجلة أيها الجسد النحيل!
تعالي أيتها الأرنبة لنرقص سويًا رقصة “الفالس” الأخيرة
أشارت لي أن أدخل السيارة، وأجلس بجوارها.
قالت لي : مااسمك؟
أسمي “كمال” وأنتِ ما اسمكِ؟
أنا” ليلي” كم تحب أن أدفع لك ثمن خراب السيارة؟
أخذت في التفكير مدة ليست بقليلة وكان الشرطي يتعقبني
قلتُ لها : لاشئ_لن أخذ منكِ أي نقود!، سوف أذهب للورشة الخاصة بصديقي وأقوم باصلاحها.
قالت لي : لا _لا بد أن تأخذ ثمن الإصلاح ،حينها أنصرف الشرطي ، كنت أشعر وقتها أنني صُعقت من رائحة عطرها النطيف، حتى هي لاحظت أنني أغمض عينى من وقت لآخر، حسبتني أريد النوم! طلبت منّي ثانيًا أن تعطيني ثمن إصلاح السيارة، ومدتْ يدها المملؤة بالنقود فئة المائتي جنيه، لكنني رفضتُ وأمسكت يدها لإبعاد النقود عنّي، وجدت يدي ترتعش وجبهتي تتصبُ عرقًا.
لاحظت هي هذا ودون أي مقدمات سألتني : أنت متزوج؟
قلتُ لها وأنا أرتعش : لا.
ضحكت وأدارت مفتاح سيارتها وقالت لي ممكن نشرب فنجانين قهوة؟
قلتُ : بالتأكيد. ذهبنا لأحد الفنادق القريبة، وجلسنا كأثنين يعرفان بعضهما من زمن. مر اليوم وذهبت إلى سيارتي بعد أن تبادلنا أرقام الهواتف.
صباح اليوم التالي يوم الأحد. أفيق مُنتعشًا كأقحوان. العالم أمامي لاتشوبه شائبة، مايزال بكرًا كالمناطق القطبية. أبتلع قليلًا من الإسبرسو. ألقي نظرة من نافذة غرفة الطعام على حمام الشقة المقابلة.
أتنهد تنهيدة يضرب صداها جدران الغرفة
ظللتُ أتذكر طيلة مشواري إلى منزل “ليلي” ماقالته لي حين علمت أنني طبيب أمراض نفسية وعصبية، وأنها تخشى العيادات النفسية، لكنها تريد أت تفضفض مع شخص يكون على دراية بعلم النفس! ظلت الأفكار تطاردني هل هي تقصد هذا فعلًا أم أنها تريد أن نمارس الحب معًا في شقتها؟
أصبحت عند العنوان الذي كتبته لي، لايفصلني عنها إلا ثلاثة أدوار، أطلع أم أتراجع؟ رحت أقفز صاعدًا الدرجات
. الآن أنا عند باب الشقة، لم يمر أكثر من اربع ثوان، فتح الباب وكانت رائحة العطور الفرنسية تفوح في أركان تلك الشقة المليئة بالتحف واللوحات القيمة. أستغرقت وقتا كافيا لألتقط أنفاسي.
أجلستني على كرسي ذهبي وذهبت لإحضار مشروب ترتدي فستانًا واسعًا يسترها من أعلى الرأس إلى أخمص القدم فقلتُ في نفسي “لقد ظننتُ فيها ظن السوء، أمرأة بهذه الملابس ، أكيد هي إنسانة متدينة” تنفست الصعداء حين وجدتها بهذا اللبس فالأمر سوف يصبح على مايرام، فخوفي من الندم لم يحدث لأنني لن أخون حبيبتي “موران”.
طلبت منّي “ليلي” الدخول لغرفة الطعام لأن الموقد لايشتعل. عند دخولي لغرفة الطعام، رأيت أحد الأبواب مفتوحا على الورب. ضوء خافت يخرج منه. أمسكت المقبض وفتحت الباب على مهل،ثمة سرير بالغرفة وبعض الملابس عليه، تأكدت أنها غرفة النوم الخاصة ب “ليلي” . لفتت نظري” كوفية صوف خضراء”مُعلقة على الأوكرة الداخلية للباب، لمستها بيدي ثم سحبتها من على الأوكرة وقربتها من وجهي وأحتضنتها، فهي شبيهة بكوفية كانت ترتديها “حبيبتي” حتى رائحتها كانت مماثلة للعظر الذي تفضله “حبيبتي”. سرحت بعقلي الواعي حتى انتبهت لصوت “ليلى”وهي تقول” كمال_كمال” آنذاك دخلتُ لغرفة الطعام بعد ما وضعتْ الكوفية وواربت الباب.
كانت “ليلي” مولية وجهها ناحية الموقد تحاول اشعاله، وظهرها لباب الدخول.
فار الدم في عروقي حين رأيت عجيزتها تتمايل ذات اليمين وذات الشمال.
هناك شئ وحيد يمكنني أن أفعله ، أن أطلق ساقيّ للريح بأسرع ما يمكن.