فى تعريف للتراث الشعبى أنه ” عملية طبيعية تنتمى كل الانتماء إلى العملية الحضارية، فهو لم يوضع وضعًا وإنما نشأ من خلال عملية معقدة ، تتراكم فيها المعارف الحياتية والكونية. وهذه المعارف تظل تنقى وتغربل حتى تستقر في تشكيلات فنية ذات قيم إشارية عالية”.
إن حكايات الأبطال والسير الشعبية والمواويل القصصية والأمثال والحكم والرقصات، وما يصحبها من غناء وموسيقا ورسوم ساذجة وصناعات بسيطة، تصور كلها حياة المجتمع من نواح كثيرة، ولا يمكن لباحث فى تاريخ المجتمع أن يتجاهل هذا التراث الذي يمكن أن ينير له الطريق لكي يستطيع فهم عقلية المجتمع وعادات أفراده وحياتهم عامة ، ممايتيح له أن يدرس تاريخهم بشكل أسهل وأكثر يسرًا.
التراث الشعبى هو المفتاح الأساس لفهم حضارة أى شعب، معتقداته وعاداته وتقاليده. والثابت – تاريخيًاـ أن التراث الشعبى حظي باهتمام حقيقي في كتابات ابن خلدون، أول عالم اجتماع بالمعنى العلمي في الوطن العربي.
التراث الشعبى المصري جزء من تراثنا الثقافي بعامة، جزء في النسيج الثقافي المصري، تتداخل الخطوط والألوان والتكوينات، فتصنع التكوين الثقافي المصري ، على المستويين الفردي والجمعي . إنه يدخل في وعي- ولا وعي – الإنسان المصري، ويفيد منه، بلا تعمد ولا إرادة، يتداخل – بصورة أكيدة – في أفكاره وتأملاته، وطريقة تعامله، ومفرداته الكلامية.
الموروث بعد أهم في التراث، واللغة بعد مهم في التراث. الموروث، هنا، تسمية صحيحة، لأنها الوعاء الذي يضم ما يعبر به الشعب عن حضارته: أسماء الأفراد والأسر، ومفردات حياتهم اليومية، من تعبيرات وأمثال.
فى تقديرى أننا إذا لم نبادر بجمع موروثنا الشعبى، فسنقف حتمًا عند لحظة نبكي فيها على اللبن المسكوب.
الموروث الشعبى يواجه عملية إبادة من وسائل الإعلام المسموعة والمرئية. اختفت السيرة الشعبية، والحكاية الشعبية، واللغز، والمثل، والخرافة. أهملنا التأمل، واستخدام الخيال، وصياغة التعبيرات التي تعبّر – بالرمز أو باللغز – عن واقع الحال. تركنا الأمر كلّهً للتليفزيون، هو الراوي والحكّاء، وهو العائل والمدرس والموجه.
هل نتذكر: كان ياما كان، وما يحلا الكلام إلاّ بذكر النبي عليه الصلاة والسلام.. وهل نتذكر: وعاشوا فى تبات ونبات، وخلّفوا صبيان وبنات؟.. وهل نتذكر: توتةتوتة.. حلوة والا ملتوتة؟.. كانتتلك بداية الحكاية، ونهايتها، كما ترويها الجدات؟.. وهل نتذكر مصير راوي السيرة الشعبية في “زقاق المدق”؟..
من الخطأ إهمال الموروث الشعبي في دراساتنا لثقافة هذا الشعب، بل ومن السذاجة وضعه في إطار القيمة المحدودة، لأنه يتصل بصميم الشخصية المصرية، فهو يصدر عنها، يعبّر عن خلاصة تجارب البداية، والتواصل على هذه الأرض، ويصدر إلى أجيال أخرى حالية، وقادمة، تفيد من تجارب السلف، ويظل التواصل قائمًا.
يغيظني ذلك التصور الغريب للأدب الشعبى – والموروث الشعبى بعامة – أنه ” يروج بين العامة وبسطاء العقول ومحدودى الأفهام. أما أصحاب العلم والمعرفة فليس لهم فى مثله غاية، وليس فيه عندهم عناء”.
إن إهمال المحافظة على هذا الموروث يعني إهمال المحافظة على الهوية، وتعريض الشخصية المصرية – بالمعنى العام – لتشوه الملامح. وليس خافيًا ذلك الدأب الصهيوني على محاولة سرقة التراث المصري، والعربي، ونسبته إلى ما يزعم أنه تراث عبرى، يهودى.
الإنسان المصرى يحيا حياته، يعانيها، ويستخلص من معاناة الحياة خبرة ورؤية وحكمة، يلخّصها جميعًا في مفرداته اللغوية. والمثقف مواطن مصرى، ولد، ونشأ، فى مصر، وتكوّن ثقافيًا- في مراحل عمره – في البيت والمدرسة والجامعة والشارع والمسجد إلخ.. من ذلك كله يتألف موروثه الثقافي – والموروث الشعبى بعد أهم فيه – فهو لا يستطيع الزعم أنه لم يتأثر به. إنه يتحدث باللهجة العامية بما تتضمنه من مفردات متميزة، مغايرة للفصحى، وللهجات الأخرى، يلجأ إلى الخبرات السابقة، ويضمّن أحاديثه العادية تراث هذا الشعب من أمثال وألغاز وعبر ومواعظ وحكايات وسير.
الأمثال والتعبيرات – فى عمومها – باللهجات المحلية ، والدراسة الموضوعية يجب أن ترفض التبديل والتحوير، أو الصياغة بغير اللهجة التي يقال بها التعبير، أو المثل.
دراسة الأسماء والأمثال والتعبيرات – مع أهمية إيرادها باللغة أو اللهجة التى قيلت بها-ـ تعنى دراسة التأثير المتبادل بينها وبين معتقدات المجتمع وعاداته وتقاليده وحضارته عمومًا. إنها دراسة اجتماعية، سوسيولوجية،أنثروبولوجية– سمها ما شئت – في الدرجة الأولى.
من هنا، يأتي رفضي توسيع الشقة بين اللغة العربية واللهجات العامية، فهى تتعدد في البلد الواحد.. أرفض أية محاولة لطرح اللهجات العامية بديلًا للفصحى، أو استبدال الحرف اللاتيني بالحرف العربي ، وأرفض مجرد النظر إلى اللغة العربية باعتبارها غير متوائمة مع آليات التقدم التي تحرك عالمنا المعاصر.
كم عبت على بعض المستشرقين – وبعض كبار مثقفينا أيضًا ـ محاولاتهم لجعل العامية بديلة للفصحى. العامية لهجة، أما الفصحى فهي لغتنا القومية التي يجدر بنا الحفاظ عليها، حفاظًا على عروبتنا، هويتنا المتميزة، والمتفردة. أتأمل أحوالنا، فأعجب للمحاولات التي تستهدف النيل من لغتنا القومية، فى حين يحاول ” الآخر” – فى المقابل – أن يحيى لغة ميتة!
دراسة العامية تعنى دراسة أبعاد من حياتنا الاجتماعية المصرية، اتصال التراث/ الموروث بالآني، واستشراف صورة المستقبل .