البلد، رواية لعباس أحمد، تعرض للحياة في بدايات إنشاء شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى. عدت إليها في كتابي ” مصر في قصص كتابها المعاصرين” باعتبارها من أصدق الروايات تعبيرًا عن تلك الفترة التي كانت فيها الشخصية المصرية الحقيقية تكتسب ملامحها من خلال المشروع الرائد. تصورت مصنع الغزل والنسيج ساحة لرواية ميرفت العزوني، ولعلي تهيأت للتعرف إلى شخصيات وأحداث تصل ما عايشته في بلد عباس أحمد. لكن الصور توالت بما يهبنا وقائع بعيدة عن المصنع وعماله، ودوره الأهم في مجتمع المحلة. ليس ثمة إلّا كلمات، أو عبارات مختصرة عن انطلاق صافرة بدء الورديات، وانهائها، ورائحة اليود والسافلون.
كان لإنشاء الشركة تأثيره المباشر في تخلق المجتمع السكني من حولها. نزح العمال من القرىوالكفور المجاورة، اشتروا – بمدخراتهم القليلة – أراض مجاورة للمصنع، بنوا بيوتًا تقل في قيمتها عن بيوت الشركة، ولأنها كانت أشبه بثكنات الجيش، فقد أطلق الأهالي عليها تسمية ” المستعمرة”. أما الشركة فقد أنشأت فيلات وعمارات لكبار موظفيها، وناديًا اجتماعيًا، يضم دار سينما صيفية، وأخرى شتوية. وكما نعلم فقد كان للنشاط الرياضي المتولد عن هذا النادي، دوره المتقدم في دوري كرة القدم المصرية، إلى حد حصول فريق الكرة – يومًا – على درع الدوري.
صدرت ميرفت العزوني روايتها بعبارتين، واحدة لساراماجو، والثانية للساردة. الإحباط في العبارتين أول ما يطالعك، بما يشي – مسبقًا – بتطورات الأحداث.
إذا كان جارثيا ماركيث قد بدأ أحداث روايته ” حادثة وفاة معلن ” من نهايتها، من حادثة القتل التى مثلت طرف خيط البداية، فإن الفنان قد اختار أن يستبق الأحداث، أو يقفز فوقها، فهو يقدم أحداثًا مستقبلية، ثم يعود إلى الحدث الآنى، ليست تقنية الدائرة، وإنما هي وصل ما يحدث بما حدث وما سيحدث .
ساكن المرايا رواية دائرية (المساحة الزمنية تبدأ من قبل ثورة يوليو، تواصلًا إلى ما بعد انتصار أكتوبر) فهي تبدأ بالنهاية القاسية لنورا. ألقت بنفسها من سطح البيت إلى أرض الطريق، خاتمة مأساة بدأت برحيل الأم، وزاوج الأب بثانية تصورت العداء صلة بينها وبين ابنة زوجها. وعانى أهل الشارع إحساسًا باللوم،ـ وأن قسوة قلوبهم وحماقتهم أهدت نورا قربانًا للموت.
نحن نتبين من تنامي الأحداث أن دور زوجة الأب في حياة نورا، التأثير السلبي لذلك الدور، أدركته الفتاة من الحكايات القاسية عن زوجة الأب توحيدة، والتي شكلتها مخيلة الفتاة في صور غير آدمية بشعة.
كشف الواقع الجديد عن ملامحه – بالفعل – في تلاحق تصرفات توحيدة، نظراتها المحملة بالقسوة، ملاحظاتها حول طريقة تناول الطعام، تحريض أبيها على ضربها لغير سبب حقيقي.
حاولت نورا أن تتكيف مع الوضع الجديد الذي أنشأه زواج أبيها من توحيدة، فهي تنام في الصالة بدلًا من النوم في حجرة نومها، تركتها لشقيقها حتى لا يشعر بالحرج في حركة المرأة خارج حجرة نومها.
عاشت نورا أمنية أن تتغير الحياة قليلًا، فتعاملها زوجة الأب كإبنة أو صديقة. لكن توحيدة، الممرضة،حرصت أن تشتري ود ناس الشارع بالنصائح الطبية، وتضميد الجروح، مقابلًالغياب الود في علاقتها بابنة زوجها.
رغم المتاعب التي نثرتها زوجة الأب في طريق نورا، ومنها العناية – بدلًا منها –بأبيها، وبشقيقها، فقد استطاعت نورا أن تستكمل دراستها حتى الحصول على دبلوم المدرسة الزخرفية، مما أتاح لها العمل في الشركة.
في المرحلة الإعدادية تملك حب الفن التشكيلي من وجدان نورا، لكنها – رضوخًا لتأثير توحيدة على الأب – أهملت ما بدأ يشغلها من أحلام في الدنيا التي أحبتها. تناست حتى قول أبلة علية مدرسة الرسم (تذكرني– شخصيًا – بجاد أفندي مدرسي في البوصيري الأولية – في يوم ما ستصبحين فنانة كبيرة ).
القصة داخل القصة تتحدث عن العلاقة بين شاب مسيحي ( إبراهيم ) وفتاة مسلمة ( نورا )، إعادة لعلاقات روائية وقصصية، محورها شابان مختلفا الديانة.
بدأ الحب من طرف واحد. يحبها إبراهيم في صمت، ويخشى البوح حتى لا تنشأ مشكلات يفرضها اختلاف الديانة. أقدم – كما فعل شبان مسيحيون أرادوا الزواج من فتيات مسلمات، على تبديل ديانته ليسهل عليه الزواج. وبدلًا من الوظيفة، فضل إبراهيم أن يدير دكان أبيه العطار.
فقد الشقيقان الحيلة أمام تسلط توحيدة على الأب، ما تقوله يصدقه، ما تطلبه يلبيه: ” الأب الحنون تحول إلى النقيض من أجل امرأة”.
حتى حبها لإبراهيم الذي بدّل ديانته كي يتزوجها، نفاه تخاذل الأب، وتسلط الزوجة، فتزوجت ممن لا تحبه” منحته جسدها، جسد بلا روح، بلا مشاعر، تركت قلبها لدى إبراهيم.
فقدت نورا شحاتة رعاية أبيها، وتوثق العلاقة بشقيقها، وحبيبها، والمستقبل الذي أعدته لنفسها. فقدت العلاقة بكل شيء.
أزمعت نورا الرحيل عن البيت، وأقدمت على الفعل في لحظة لم تتدبرها، ولا أبلغت بها من حولها. سافرت إلى العاصمة بأمل العثور على شقيقها الذي اختفى من حياتها، شرط عودته أن تتزوج رجلًا ماتت زوجته، فترعاه، وتخدم أولاده.
قصة أخرى داخل القصة، هي أوضاع مهجري القناة في دمياط والمحافظات القريبة من مدن غرب سيناء، مجتمعات استثنائية أفرزت الاختلاف في تناقض العادات والتقاليد والسلوكيات، وأفرزت الكثير من المشكلات. وعلى حد تعبير الساردة، فإن مصطلح المهاجرين – أو المهجرين – خلقته النكسة،”رجال ونساء وأطفال شهود على اليأس والانكسار”.
لعلي أختلف مع قول العزوني إن التاريخ مجرد حكايات، يكتبها المنتصرون والطغاة. التاريخ يكتبه – بوقائع مغايرة – من يواجهون القهر والدكتاتورية، والأمثلة كثيرة.
هذه موهبة متحققة، تعى خصائص السرد الفني، من حيث اللحظة الدرامية التى تعنى بالتقاط التفاصيل الدقيقة، والمنمنمات، والمفردات البسيطة، التي ترفض التكلف، وتقليد أساليب الآخرين، والإسراف فى الزخارفوالنتوءات والترهلات، قوام اللغة عبارات قصيرة، قليلة، مضمرة، موحية، لا تقافز للكلمات بما يشوه المعنى.فالقراءة الجادة، الواعية، تستنبط ما تحمله من دلالات.
كنت أرجو لو أن مدققًا أزال ما شاب السرد من أخطاء لغوية.
**