كتبها- وليد شاهين
صاحب الصوت البكاء.. والمقامات الموسيقية
درس علم القراءات فى سن 12 عاماً.. واشتهر بحب الضعفاء والمساكين
تعرض للعديد من المكائد من منافسيه وصلت إلى وضع السم فى طعامه
رفض القراءة فى حفل يحضره “عبد الناصر” بسبب سوء تصرف أحد وزرائه
هو أحد روّاد القراءة على الإطلاق المتميزين بتلاوته المرتلة والمجوّدة من الرعيل الأول وحتى يومنا هذا.. المتربع الأول على عرش التلاوة.. والمثل الأعلى لجميع القراء فى العالم حتى الآن.. ولتمتعه بملكة صوتية خاشعة ذو مسحة من الحزن لُقِّبَ بـ”الصوت الباكي”.. كما أنه أحد أهم السمات الرمضانية والتى توطنت فى أذهان المسلمين على مدار أكثر من سبعة عقود.
ولِدَ الشيخ “محمد صديق المنشاوى” فى صبيحة يوم الثلاثاء 20 يناير عام 1920 بقرية “البواريك” بمركز المنشأة التابع لمحافظة سوهاج، ونشأ داخل عائلة قرآنية، أطلق عليها “المدرسة المنشاوية”.
التحق بكُتَّاب القرية ليحفظ القرآن على يد الشيخ “أبو مسلم”، فأتم حفظه وهو فى الثامنة من عمره، وعند بلوغه الثانية عشرة درس علم القراءات على يد الشيخ “محمد مسعود” الذى انبهر به وبنبوغه المبكر، فأخذ يقدمه للناس فى السهرات والليالى، وظل معه حتى بلغ الخامسة عشرة من عمره، فاستقل عن شيخه ووالده بعد أن ذاع صيته وعلا نجمه فى محافظات الوجه القبلى، حيث لقى قبولاً حساناً لعذوبة صوته وجماله وانفراده، بالإضافة إلى إتقانه مقامات القراءة وانفعاله العميق بالمعانى والألفاظ القرآنية.
لم يلتحق الشيخ “محمد صديق المنشاوى” بأى معهد لتعلم المقامات الموسيقية، ولم يدرسها على يد أحد الموسيقيين، بل كانت موهبةً أنعم الله عليه بها، وقد عرض عليه أحد الموسيقيين الكبار فى فتر الستينيات أن يلحن له القرآن!! قائلاً له: “أنت الصوت الوحيد الذى يقبل الموسيقى فى القرآن”.. فرد عليه الشيخ قائلاً: “لقد أخذت الموسيقى من القرآن.. فكيف تلحن أنت القرآن بالموسيقى؟!”.
عشق الشيخ سماع أصوات جميع المقرأين الذين عاصروه، وعلى رأسهم الشيخ “محمد رفعت، وعبد الباسط عبد الصمد، وطه الفشنى” خاصةً تأثره بالأخير من خلال أدائه فى التواشيح والابتهالات الدينية، وكان كثيراً التواصل معه ليتعلم منه مواطن الجمال الموسيقي فى صوته.
تزوج الشيخ “المنشاوى” مرتين، الأولى كانت ابنة عمه والتى تزوجها فى سن الثامنة عشرة من عمره، وأنجب منها أربعة أولاد، ثم تزوج الثانية وكان عمره قد تجاوز الأربعين، وأنجب منها تسعة أبناء، حيث كانت زوجتاه تعيشان معاً فى مسكن واحد يجمعهما الحب والمودة، حتى توفيت زوجته الثانية أثناء تأديتها فريضة الحج قبل وفاته بعامٍ واحد.
تعرض الشيخ لعدد من المكائد من جانب منافسيه، خاصةً مع بزوغ نجمه فى سماء القراءة، وتربعه على عرش مملكة التلاوة، منها ما أشيع عنه أن صوته ضعيف ولا يستطيع تبليغه لمستمعيه إلا من خلال الميكروفون، لكن الشيخ أستطاع أن يقضى على هذه الشائعة عندما كان يحيى أحد السهرات القرآنية بمحافظة المنيا، وأخبره عامل الميكروفون بإذاع من مقرئ منافس عن وجود عطل فنى فى الميكروفون يتعذر إصلاحه، فاستشعر الشيخ “المنشاوى” بأن هناك مؤامرة لإحراجه، فما كان منه إلا أن شرع فى قراءة القرآن الكريم ماشياً على قدميه بين جمهور الحاضرين الذين تعدى عددهم الآلاف، وأخذوا يتجاوبون معه حتى أبهرهم بقوة صوته وأدائه الرائع، وظل يقرأ على هذه الحالة حتى ساعة متأخرة من الليل.
كما حاول حاقد أخر أن ينال من الشيخ عندما دُعى لتناول العشاء بعد انقضاء إحدى سهراته القرآنية عام 1963 وأوصى الطباخ بأن يضع له السم فى الطعام مقابل مبلغ من المال دون علم أصحاب السهرة، ولكن الطباخ أخبر الشيخ وطلب منه عدم إفشاء سره، ونجَّا الله الشيخ من هذه المكيدة، وعلى الرغم من معرفة الشيخ بأسماء من أعدوا له هذه المكائد؛ إلا أنه لم يخبر أحداً بهم طيلة حياته، وكان يعتصم بقوله “إن الله حليماً ستار”.
رفض الشيخ “المنشاوى” تلبية دعوة لإحياء حفل يحضره الرئيس الراحل “جمال عبدالناصر” رفضاً تاماً عندما وجه له الدعوة أحد الوزراء قائلاً: “سيكون لك الشرف الكبير لحضورك حفل يحضره الرئيس عبدالناصر”.. فرد عليه الشيخ بقوله: “ولماذا لايكون هذا الشرف لعبدالناصر نفسه أن يستمع إلى القرآن الكريم بصوت محمد صديق المنشاوى”.. ورفض تلبية الدعوة قائلاً: “لقد أخطأ عبدالناصر حين أرسل إليَّ أسوأ رُسُله”.
اتسم الشيخ بحبه للضعفاء والمساكين وعطفه على اليتامى والفقراء، خاصةً من أهل بلدته، والحى الذى سكن فيه بالقاهرة وهو “حدائق القبة”، وكان يوصى بإعداد ولائم لهم لا تليق إلا للوزراء وكبار المسئولين.
سجَّل الشيخ “المنشاوى” القرآن الكريم كاملاً في ختمه مرتلة، كما سجل ختمه قرآنية مجودة بـالإذاعة المصرية، وله كذلك قراءة مشتركة برواية الدوري مع القارئين كامل البهتيمي وفؤاد العروسي، وله أيضا العديد من التسجيلات في المسجد الأقصى والكويت وسوريا وليبيا، كما تلى القرآن في المساجد الرئيسية في العالم الإسلامي مثل: “المسجد الحرام والمسجد النبوى والمسجد الأقصى”، وخلال رحلة حياته القرآنية زار عدداً كبيراً من الدول الإسلامية والعربية.
أصيب الشيخ بمرض “دوالى المرئ” سنة 1966، لكنه لم يتأثر به على الإطلاق، وكان يستعين بالله عليه ويصبر ويقول: “نحن نعيش كل يوم هذه الحقيقة.. فكيف لانرضى.. وإنا لله وإنا إليه راجعون”.
ورغم مرضه وتحذيرات الأطباء من ارتفاع صوته؛ ظل يقرأ القرآن ويصدح به نغماً وخشية، وقد أمر الرئيس عبد الناصر بسفره إلى لندن وعلاجه على نفقة الدولة، إلا أنه المنية وافته قبل السفر يوم الجمعة 5 ربيع الثانى 1389هـ الموافق 20 يونيو 1969، عن عمر يناهز 49 عاماً قضاها فى خدمة كتاب الله المحكم.
قال عنه إمام الدعاة الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي: “إنه ورفاقه الأربعة -يقصد عبد الباسط والبنا والحصرى ومصطفى إسماعيل- مقرئون؛ الآخرون يركبون مركبًا ويبحرون في بحر القرآن الكريم، ولن يتوقف هذا المركب عن الإبحار حتى يرث الله -سبحانه وتعالى- الأرض ومن عليها”.. رحم الله شيخنا الجليل على ما قدمه من حسن تلاوة.