الغالبية العظمى من الكتب المطبوعة هي عبارة عن كتب أدبية تنوعت ما بين قصص وروايات ، والنسبة الأقل تجدها كتبا علمية وفكرية..
أما مؤشرات الرصد التاريخ فتري أن الحضارات لا تقوم إلا علي العمل والعلم والبناء والإنتاج ،لذا أصبح من الضروري تحول العقل الجمعي من العقلية الأدبية إلي العلمية.
ولذا ينبغي إعادة تقييم الدور الجوهري لوزارة الثقافة ووزارة التربية والتعليم، لتنبيه الوعي الجمعي وإعادة ضبط البوصلة وتوجيهه إلى الثقافة العلمية لأن الأدب؛ سواء كان قصة أو رواية أو فيلما أو مسلسلا لن يبني حضارة، بل هو من عوامل التسلية والترفيه فقط وليس من عناصر الإنتاج الحضاري.
هذا هو موضوع الجزء الأول من كتاب ” ظلال العقل العربي” ..مسقط رأسي علي المجتمع العربي من منظور سيكولوجي ” والصادر عن دار كتبنا للنشر. يتناول المصنف أثر دخول الثقافة العربية الأدبية الطابع وظلالها على مجتمع مدني عقليته علمية عملية تطبيقية، وفنونه بصرية وحسية وليس حرفته نسج الضفائر الشعرية..
وعلي منصة المساء والجمهورية أون لاين نعرض فحوي وخلاصة الكتاب ،من خلال رؤية الباحث د.محمد مبروك أبوزيد حيث نتوقف نتوقف عن محطات مهمة للفكر ومردودها علي الحاضر والمستقبل في ظلال العقل العربي.
………………………..
ظلال العقل العربي
حينما نتطلع إلى المدونات التي سجلها أجدادنا الكرام على جداريات المعابد والبرديات ومتون الأهرام، سنلاحظ أن هذه المدونات بما فيها من علوم ومعارف تحمل سمات وخصائص مجتمع ذو عقلية علمية عملية تطبيقية، فهي شغوفة طول الوقت بالعلم والتعلم والفن والعمل، بالفكر والتأمل، والبحث وإشباع الفضول المعرفي، وشغوفة بتصوير أفكارها بالنحت أو الرسم.. وهذا ما ميز أجدادنا وساعدهم في تشييد هذه الحضارة العظيمة، وبوجهٍ عام، فالشعوب المدنية تسكن أودية وضفاف الأنهار لتبني وتعمر الحضارات، وتمتد حقب ازدهارها آلاف السنين مثل الصين والهند وإيجبت بلدنا الحبيبة.. ومهما تعرضت هذه الشعوب المدنية الحضرية لنكبات أو هجمات احتلال متتالية من جيرانها بدو الصحارى أو الجبال الطامعين في ثرواتها، فتظل محتفظة بسماتها وملامحها الاجتماعية وصفتها المدنية الحضرية ولا تتحول إلى البداوة، لأن الإنسان وكل كائن حي هو ابن البيئة التي يحيا فيها، ومهما مرت العصور فإنه كما الأشجار تتساقط أوراقها في الخريف لتعيد ازدهارها في ربيع حضاري جديد ..
فمثلاً؛ بعد دخول العرب بلادنا واستقرارهم في مخيم الفسطاط، وسكنت باقي القبائل في تخوم القرى المحازية للصحراء، كون هذه القبائل تعيش حياة البدو والرعي ولا طاقة لها بسكنى المدن. بدأ أجدادنا القبط يتعرفون على ملامح القومية العربية من بعيد، وانتشر الإسلام بمعدل 2% خلال المائة سنة الأولى، ثم في العصر الفاطمي حدث تغير مفاجئ بصدور قرار الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بقطع لسان كل من يتحدث اللغة القبطية، وأنه على الجميع أن يتحدث العربية.. وبالطبع نعلم جميعنا بجنون هذا الحاكم المراهق، لأن مثل هذا الأمر لا ينبغي مباغتة الشعب به، وليس من المنطقي أن نفرض على شعب ما أن يتخلى عن لغته وتراثه الثقافي ليتحدث بلغة الحاكم، بل إنه حاول أن يفرض مذهبه الشيعي كذلك لكنه لم يفلح.
وما يهمنا في الأمر هو ما حدث نتيجة التحول المفاجئ من اللغة القبطية إلى اللغة العربية، لم يكن الأمر قاصراً على لغة الكلام في الشوارع والأسواق، بل إن هناك كتب مكدسة ومكتبات تعج بتراث معرفي متراكم في كافة أنواع المعرفة عبر آلاف السنين من عصر الرعامسة، منها ما هو علمي وتقني وفلكي وكيميائي وفيزيائي وطبي وهندسي وزراعي وديني ..إلخ. بينما التحول المفاجئ إلى اللغة العربية منع الفرصة لترجمة هذا التراث المعرفي المتراكم، في ظل حاجة الأهالي لتعليم أطفالهم، فانتقلوا بشكل مفاجئ واضطراري من المدارس القبطية بكافة علومها ومعارفها إلى الكتاتيب العربية التي تدرس اللغة والأدب والشعر والدين.. أي حدثت عملية تحول كامل ومفاجئ في المحتوى المعرفي؛ لأن العقلية العربية وكل رصيدها المعرفي منحصر في الشعر والأدب وأساطير التاريخ العربي وملاحم الفروسية، وقصائد الشعر والزجر والمعلقات..إلخ، بينما يخلو الرصيد المعرفي العربي بالكامل من أي مادة علمية، لأن حياة العرب في البادية والترحال بالخيام لم تكن بيئة خصبة وملائمة للعلم والحضارة، ولذلك انحصر رصيدهم الثقافي في ملاحم الفروسية والأدب والشعر وتفصيل مفردات اللغة والمجاز والاستعارة والتورية والبلاغة وفنونها..إلخ، أي مجرد كلام في كلام. وقالوا أن الشعر ديوان العرب؛ يعني مرجعيتهم الثقافية وأرشيف حياتهم وكل حضارتهم !
وهذا كله ثراء لغوي أدبي، يخلو تماماً من أي رصيد علمي، بل إن العقلية العربية لم تتمرن أصلاً على التفكير العلمي والتقني حتى يومنا هذا، وهذا ما لاحظه الدكتور أحمد سعيد القشاش، الأستاذ بجامعة الباحة السعودية، ولاحظه الدكتور أحمد زويل، وتحدث عنه ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع لكن لم يصدقه أحد في عصره، قرر أن العرب رصيدهم الثقافي أدبي بالفطرة والسليقة وطبيعة الحياة البدوية، ونحن نقرر أنهم عقلية أدبية غير قادرة على هضم العلوم.
بينما شعب وادي النيل ذوي نسيج ذهني مختلف وعقلية علمية عملية تطبيقية… لكن ما حدث أن الحكومة وقتها لم تضبط هذا الأمر بحكمة، وتركت الثقافة الأدبية تغمر عقول الشعب مع طمس الرصيد المعرفي العلمي المتراكم باللغة القبطية، فلم تحدث أي عمليات ترجمة وتحويل للعلوم من القبطية إلى العربية.. لم يدرك أحد أن هناك كارثة ستحدث على مدار ألف عامٍ من عمر الزمن .. إذ أن تحول الشعب من العقلية العلمية إلى الأدبية لن يقدم إبداعاً شعرياً مثل العرب مهما اجتهدوا ! وحتى وإن أفلحوا في ذلك، فلن يقدموا شيئاً جديداً ينفع بلدهم لأن الشعر والزجر لا يبني حضارات، فالحضارات لا تقوم إلا على العمل والعلم والبناء والإنتاج. ولذلك بتحول العقل الجمعي من العقلية العلمية إلى الأدبية، حدث ما يشبه شلل فكري على المدى البعيد.
كان أجدادنا المسلمون الأقباط الأوائل يتلقون الأدب العربي واللغة من أفواه العرب بالكتاتيب باعتبار هذه الثقافة هي أرضية لفهم علوم الدين، لكنهم لم يفطنوا لغياب باقي أنواع المعرفة الأخرى والتي هي أدوات الحضارة، خاصة أنها ليست موجودة في اللغة العربية، فكل رصيدها لغوي أدبي شفوي سردي حكائي، بل إنه وقت دخول العرب بلادنا، لم تكن القومية العربية بكامها تملك كتاباً واحداً في أي نوع من المعرفة .. عدا حزمة من جلود الماعز وعظام الإبل مدون عليها سور القرآن … وفيما عدا ذلك فكل الرصيد الثقافي والمعرفي العربي أدبي شعري تاريخي شفوي، وهذا ما تسبب في حدوث شلل في الوعي الجمعي نتيجة افتقار الثقافة العربية إلى العلوم، التي هي ميزان العقل ومفاتيح الحضارة..
هذا الأمر يحتاج من خبراء المناهج إعادة النظر في طبيعة الثقافة العربية ومدى ملاءمتها للعقل المصري والعقلية العلمية، ومدى احتياج مجتمعنا للثقافة العلمية التي تؤهل الشباب للعلم والعمل والإنتاج والإبداع التقني.. ففي زيارتي الأخيرة لمعرض الكتاب فوجئت بأن ما يقارب نسبة 99% من الكتب المطبوعة هي عبارة عن كتب أدبية تنوعت ما بين قصص وروايات مقابل 1% تقريباً كتب علمية وفكرية.. وبالتالي على الحكومة أن تنظر إلى هذا الأمر وتعيد تقييم الدور الجوهري لوزارة الثقافة ووزارة التربية والتعليم، لتنبيه الوعي الجمعي وإعادة ضبط البوصلة وتوجيهه إلى الثقافة العلمية لأن الأدب؛ سواء كان قصة أو رواية أو فيلم أو مسلسل لن يبني حضارة، بل هو من عوامل التسلية والترفيه فقط وليس من عناصر الإنتاج الحضاري.
هذا هو موضوع الجزء الأول من كتاب ” ظلال العقل العربي” والذي يتناول أثر دخول الثقافة العربية الأدبية الطابع وظلالها على مجتمع مدني عقليته علمية عملية تطبيقية، وفنونه بصرية وحسية وليس حرفته نسج الضفائر الشعرية، فلا نجد معلقات شعرية مثلاً على الجداريات والبرديات بقدر ما نجد معارف علمية وعملية وفنية أو رسائل رومانسية، وبطبيعة الحال، فلا أحد يغير جلده، ونسيجنا لذهني لن يتغير ليتوافق مع طبيعة العقل العربي وطريقة تفكيره الأدبية، بل سيتوقف عند حالة شلل فكري نعيشها الآن ..
حتى أن الأديب يوسف زيدان ذات مرة في تعليقه على أحد المباريات، بعدما نشب نزاع بين الجماهير قال: إن كرة القدم هواية جميلة، ولا يجب أن تنتهي المباريات بالنزاع بين الجماهير.. فوقوا يا عرب ” . فرد عليه أحد الشباب قائلاً: كيف يا مثقف تقول فوقوا يا عرب وأنت تعرف جيداً أننا لسنا عرب؟ رد الدكتور زيدان قائلاً: ( من أنا ؟ أنا لغتي ).
وجاء ردي على الدكتور زيدان: إنك تختزل هويتك القومية في مجرد لغة ؟! هذه كارثة عقلية، لأن العرب هم من يقولون أن هويتهم هي اللغة العربية، وذلك ببساطة لأن عقليتهم أدبية وكل أدواتهم الثقافية هي اللغة وكل نتاجهم المعرفي والفكري في اللغة شعراً ونثراً وحكاية ورواية، لأنهم ليس لديهم أيي منتج حضاري سوى اللغة، فهم يذكون أنفسهم باللغة، برغم أنه لكل شعب لغة ! بينما الهوية القومية لها عناصر أساسية منها: الأرض والجغرافيا والمناخ والبيئة الاجتماعية والحيوية والتاريخ والثقافة والعقلية علمية أو أدبية، فلا يمكن اختزال هويتنا القومية في مجرد لغة، لأننا شعب مدني من شعوب الحضارات، واللغة وحدها لا تبني حضارة، إنما كونك يا دكتور زيدان تقمصت العقلية العربية الأدبية وانغمر وعيك بثقافة أدبية، فتصورت خطأ أن اللغة هي العنصر الوحيد للهوية الوطنية القومية وأن الأدب الشعري هو أداوت العلم والحضارة ! ولذلك جاء جوابك: (من أنا؟ أنا لغتي).. وهذا يجسد الفارق بين العقلية الأدبية والعقلية العلمية، أو ما يقوله يوسف زيدان، وما يقوله زاهي حواس وأحمد زويل وابن خلدون وأنا معهم!.