بقلم : د.هانم صبره
محمود سعيد ذلك الفنان السكندرى الذى عشق تراب مصر وكل زاويةٌ فيها ولم يترك هذا العشق حبيس دواخله ولكنه أخرجه لنا على مسطحات لوحاته المختلفة ليروى لنا أروع قصة حب بين فنان وبين كل قطعة على أرض بلاده بما عليها من بشر وحيوانات وعناصر جمالية اخرى .. ثم صهرها فى بوتقته التى مزج فيها ذلك العشق بما شاهده من تراث حضارى داخل مصر، وبما أكتسبه من رحلاته خارجها فى متاحف أوروبا وإيطاليا وغيرها وتأثره بمشاهير الفن هناك ..
ومحمود سعيد من أوائل مؤسسى المدرسة المصرية الحديثة فى الفنون ومن الذين حملوا راية التجديد فى الفن المصرى الحديث ، حيث خرج عن القواعدالكلاسيكية المعروفة من قبل، واتبع أسلوبا فريدا فى أعماله التى أكسبها الطابع المصرى المتميز بسماته وأهتم بالضوء النابع من شخوصه وعناصر لوحاته المختلفة، متأثراً فى ذلك بالفنان الهولندى “رمبرانت” الذى اشتهر بالضوء الذاتى داخل أعماله ..
إلى جانب ذلك تأثر سعيد بسيزان فى تكويناته والأحجام والفراغ فى لوحاته إلى جانب التوازن بين عناصره، كما تأثربفلسفة سيزان فى تعامله مع الطبيعة فهو يرى الطبيعة عبارة عن علاقات بين الأحجام وبعضها البعض ونتيجة لهذه العلاقة نجد الخطوط تكونت، ولذا فقد كان رسم بالألوان مباشرة، وأكد ذلك الفنان / رضا عبد السلام فى كتابه “الرسم المصرى”: “كان سعيد يرسم بالألوان مباشرة دون الخطوط فكما يقول لا يرى الخط ولكنه يرى اللون وهو هنا متأثربسيزان فالطبيعة ليس بها خطوط ولكن بها أحجام لها علاقة مع أحجام أخرى
تكون قريبة منها تكون الخط ، لذا نجد أن أكثر الدراسات التحضيرية والكروكيات التى رسمها للوحاته مرسومة بالألوان الزيتية لا بالقلم”
وبالرغم من أن الفنان محمود سعيد عاش وسط الطبقة الأرستقراطية إلا أنأعماله عكست حياة الريف المصرى والحياة الشعبية وكأنه ولد وتربى فى أحدأحيائها .. ومن أشهر أعماله التى كثيرا ما كنا نراها فى كتب الفن للمراحلالدراسية الأولى لوحة “بائع العرقسوس” و”بنات بحرى” و”الدراويش” و”ذات الجدائلالذهبية” .
وقد أحتلت المرأة فى أعمال سعيد مكانة هامة منذ منتصف العشرينات وحتى نهايةالثلاثينات، تلك الفترة التى طغت فيها الأنثى على موضوعاته بأحجام وألوانوزوايا مختلفة أعطتها بعدا أسطوريا حتى أنه قال ذات مرة فى وصفه للمرأةالمصرية بنت البلد:
” في رأيي أن بنت البلد المصرية تجمع بين الإنسانيةوالحيوانية ، بين الصفاءالروحىوالإشتعال الجنسى “ً، وظهر هذا جلياً فى لوحة ذات الجدائل الذهبية
وهو الوجه النسائي الذي سيتكرر في أكثر من لوحة أهمها “دعوة إلى السفر”،
و”المستحمات”، و”العائلة” وغيرها. ذلك الوجه النسائي ذو الشفاه الغليظة والملامح الشرقية الصرفة، والتى تنطق قسماته برغبة لا تخفى على أحد، ورغم ميله لتصوير بنات البلد بنظرات حسية كاشفة، إلا أنه إلتزم بالمعايير التقليدية في رسم النساء من عائلته ومعارفه فظهرن وقورات ملتزمات ذوات ملامح جامدة، ثم جاءت فترة الأربعينيات الهادئة والتي سادت فيها المناظر الطبيعية ذات التناغم اللوني”
واشتهر محمود سعيد بأعماله التي رسم فيها بنت البلد وبنات بحري اللاتيي متلئن حيوية وجمالا وأنوثة طاغية و ظٌهر ما يتمتعن به من ملامح وقسمات شرقية وشعبية جذبت انتباهه وإعجابه، وكما ذكرنا من قبل تعتبر لوحة”ذات الجدائل الذهبية ” من أهم لوحات محمود سعيد .. “تلك العروس الساحرةالتى أسرته بجمالها الغامض فلا يمكن للمشاهد تحديد هوية تلك الملامح الآسرة، هل هى جمال طاغ لأحدي فتيات محمود سعيد أم أنها ساحرة جميلة خرجت من كتب السير والحواديت أم أنها إحدي ربات الجمال عند اليونان أم أنها إحدي جنيات
ممالك السحر أم انها… و يقول عنها محمود سعيد فى كتاب “دراسات نفسية فى الفن” للدكتور مصطفى سويف، أن ذات الجدائل الذهبية كانت ملهمته وعزاءه والجزء الأسير الذى يحطم القيود و يخرج”(إنه هنا يحدثنا عن عشيقته التى وقع أسيراً لها تلك الحسناء ذات الجدائل الذهبية والتى لونها بلون الشمس والبشرة النحاسية التى استمد لونها من لون الأرض والبنيةٌالفتية القوية التى أكدعلى مصريتها من خلال الخلفية التى وضعها وراءها أحد معالم البيئة المصرية، وهو النيل بمراكبه..وكأنه حدثنا عن مصر التى عشقها ووقع فى غرامهاوصورها بالفتاة الساحرة القوية ذات الجمال الأخاذ الغامض الذى يجذب إليه كل
من تقع عليه عيناه ليعود إليها مرةً أخرى.
وقد تناول محمود سعيد المرأة والطفل فى بعض لوحاته ليحدثنا عن عاطفةالأمومة تلك العاطفة التى تسمو فوق جميع عواطف الإنسان وتعلو عليها وبدون إظهار أى تفاصيل للوجه لأى منهما، فقط من خلال التكو ين العام لوضع الأم والطفل معا، ونرى ذلك واضحاً فى لوحة “جزيرة سعيدة ” وهى من أهم اللوحات التى تناول فيها الفنان المرأة والطفل وكأنها مقابل للوحة العذراء والطفل فى الرحلة المقدسة والتى قام فيها العديد من الفنانين برسم رحلة العائلة المقدسة من خلال امرأة تحمل طفلها وهى راكبة على حمار أبيض كما تم سردها فى القصص الدينى المسيحى، ولكن هنا نجد الفنان محمود سعيد قام برسم المرأة وهى تحتضن
طفلها وتدثره بخمارها الذى تلبسه على ظهر حمار أبيض قد تكون فى رحلةالعودة لمنزلها ونتيجة لطريقة الركوب المعتادة على الحمار فهى تكشف عن ساقها الذى ينحسر عنه أحد الملابس مما ظٌهر لنا خلخالها الأبيض والذى كثيراما كانت تلبسه النساء فى الريف المصرى وقرى الصعيد جنوب مصر أيضاً .
ووضعية الجلوس هنا هى الوضعية المعتادة للجلوس على الحمير وليس الوضعيةالجانبية التى أعتاد سعيد على رسمها، ونرى سعيد يهتم دائما برسم الحمار فى لوحاته الإجتماعية والتى تتناول مناظر طبيعيةٌ فى الريف، فالحمار مثال الطيبة والإستكانة والخضوع لصاحبه الذى يعتمد عليهٌ فى أشياء كثيرة، فهو هنا ليس مجرد حيوان ولكنه عنصر مهم فى حياة صاحبه، ورسم الفنان هذا المشهد على جزيرة ظٌهر عليها جزء من أحد المنازل، يحيط بها
النخيل الوارف الثمار من كل جانب، واللوحة هنا كأنها مشهد مسرحى مغلف بالصمت، صوره الفنان كنموذج يتمنى وجوده بالواقع، نموذج من نسج خياله وأحلامه بالرغم من واقعية مشهد المرأة مع الطفل فنحن نجده بالعديد من بعض قرى الريف المصرى وليس جميعها، حيث ممنوع على المرأة ركوب الدواب والخروج للحقول كالبعض الآخر..
ومما يؤكد مسرحيةٌ المشهد هنا الشكل شبه الدائرى لمساحة الأخضر بمنتصف العمل الفنى ومساحة المياه المحيطة به فهو مرسوم بعنايةٌ فائقة وكأنه يدعونا لزيارة هذه الجزيرة السعيدة المثاليةٌ التى تكثر ثما ر نخيلها بلونها الأصفر الذهبى وكأنها سبائك ذهبيةٌ حتى تكاد تسقط على الأرض من ثقلها على أشجارها ..
لقد جسد محمود سعيد العديدٌ من القيم الجمالية والتشكيلية فى هذا العمل الفنى محققا بذلك نظريةٌ القطاع الذهبى التى عمل عليها الكثير من الفنانين ليصلوا إلى قيم الجمال فى العمل الفنى ، وقد حرص محمود سعيد على تسجيل العائلة المصرية البسيطة المكونة من الأب
والأم والطفل، والعاطفة التى تغمر تلك العائلة والتركيز على البعد النفسى لكل فردفيها، ومن أهم لوحاته فى هذا الموضوع ” لوحة العائلة ” تلك اللوحة التى حرص على التكوين فيها وفقاً لحساباته كفنان يراعى بعض القواعد عند بناءالعمل الفنى لديه، حيث أهتم بالبناء التشكيلى والجمالى، مٌستخدما الشكل الهرمى فى مقدمتها ثم يتجه إلى عمقها محققا البعد المنظورى عن طريق نقطة الهروب..
وتلك اللوحة من اللوحات التى تأثر فيها بفنانى عصر النهضة فى وضع التكوين ووضعية جلسة الأم ورضيعها الذى يرضع من ثد يها المكسو بكردان يزينه وهى متدثرة بالملاية اللف وتشكل الأم قاعدة الهرم بجلستها على الأرض و يشكل زوجها رأس الهرم وقد يخيل إلينا للوهلة الأولى أنه “باخوس” “دافنشى”بعضلاته المفتولة ولكن مع ملامح مصرية، كما يذكرنا بوقفة المصرى القديم فىأرضه، يقضى شئون حياته على جدران المعابد المصرية وبالرغم من الصمتالمغلف للعمل إلا أن هناك حوار عائلى حميم قائم بين الأم وطفلها والأب من خلالنظراتهما إلى الطفل التى تختلف فى مضمونها بين كل واحد منهما ، فالأم مثل كل
أمهات الريف المصرى تحدث الطفل وتغنى له أثناء رضاعته أما الأب الفلاح فينظر إليه نظرة مستقبليةٌ متمنيا فيها أن يكبر بسرعة ليساعده فى فلاحة أرضه التى تركها ليقف خلف الأم وهى ترضع طفلها لآنها تضطر إلى كشف صدرها فىهذا الوقت والأب بطبعه الغيور يقف ورائها ليسترها من عيون المتطفلين.
وفى خلفيةٌ اللوحة نجد الفنان قسمها إلى شطرين أحدهما يمثله نهر النيل أو مجرى مائى متفرع منه والجزء الآخر رسم فيه واحة من النخيل يشطرها هذا المجرىالمائى و يذهب معها لعمق اللوحة محققا بعدا منظورياً ينٌتهى فى نقطة هروب خلف الأب وبالرغم من إضاءة اللوحة التى لا يٌعرف مصدرها حيث السماء ملونة بأزرق غامق وكأننا فى وقت الغروب مع ظلام ذلك اللون الأزرق بها والإضاءة على الوجوه ذاتية قام بها الفنان ليعرفنا بطل العمل الفنى هنا وبحسابات المهندس الفنان نراه يحقق نظريةٌ القطاع الذهبى ليوضح لنا مرة أخرى قيمه الجماليةٌ فى هذا العمل الذى يستحق أن يدرس فى أكاديميات الفنون على مستوى العالم، فنرى التنوع والإتزان والإ يقاع على رأس هذه القيم .
ولم يكتف سعيد العاشق للمرأة المصرية بتسجيلها على مسطح أعماله الفنية كعشيقة او حبيبة أو أم ولكن صورها فى الحقول وهى تساعد زوجها وتقف بجانبه أثناء عمله بالحقل كل له دوره الذى يقوم به ومن أهم الأعمال التى نرىفيها ذلك ” لوحة الشادوف ” وهى من اللوحات الهامة والنادرة عند الفنان محمود سعيد فهى توثق طريقٌة رى الأرض باستخدام “الشادوف” تلك الآلة البدائيةٌالتى ساعدت الكثير من الفلاحين فى رى أراضيهم قبل أن تظهر ماكينات الرى الحديثة.. ولقد أهتم الفنان بالكتل والأحجام اللونية للجبال والأرض مشكلاُ بذلك
نوعا من التوازن الذى يعطى للعمل ثقله المادى والروحى والملونة باللون الأحمرالطوبى لون الأرض فى أسوان والنوبة ولون البشرة السمراء هناك، تلك البشرةالتى اكتسبت لونها من لون الأرض والشمس معا..
ونراه أيضاً شكل السماء من الكتل اللونية مابين الفاتح والغامق، وكما ذكرناسابقاً؛ أهتم الفنان كعادته بالمرأة فى هذا العمل موضحا دورها بجانب زوجها بالإضافة إلى مساعدة أسرتها من خلال جلب الماء من النيل فى أوانيها الفخاريةالتى تحملها على رأسها، ولم يغفل الفنان لبس هؤلاء النسوة والملايةٌ اللف عليه حيث كان ذلك هو السائد فى ذلك الوقت ولم يغفل الفنان أيضأ رسم الحمارالأبيض الذى يتسم بالطيبة والإستكانة داخل العمل الفنى وكأنه تميمة الحظ لديه.
ولقد عمل الفنان محمود سعيد على إيجاد نوع من التوازن والتنوع بين الكتل والأحجام عند الأشخاص والأشياء الأخرى، فمثلا نجد الإتزان بمقدمة عمله من خلال الشكل الهرمى الذى يمثله الشادوف والرجلان الواقفان للعمل عليه والمرأةالواقفة على شاطئ النهر وبجوارها الحمار الأبيض الصغير، أيضاً يؤكد الفنان على التوازن فى اللوحة من خلال كتلة النخيل الثلاثة على اليمين وخلفها مجموعة المنازل، والكتلة الأخرى على اليسار والتى تساويها فى العدد وأيضاً يقع خلفهابعض المنازل ، أيضاً عمل الفنان على إيجاد نوع من الإتزان فى إيقاع اللون فقام بتوزيع اللونين الأبيض والطوبى فى كافة أرجاء عمله مع توزيع للرماديات على استحياء كما قام بتوزيع درجات الأصفر وكأنها ضوء الشمس على الأرض، إلى جانب ذلك لم يغفل الفنان التنوع فى الخطوط مما أكسب العمل إيقاعاً فريداً منسجماً فى تناغم سيمفونى .
إن الفنان محمود سعيد قام برسم هذه اللوحة وكأنها عمل معمارى قام ببنائه بدقة متناهية واضعا أمامه كل الحسابات الهندسية للحفاظ على النسب والإيقاع والإتزان والتنوع بين جميع عناصرها حتى لا يخل بإرتكاز وتوازن بناءه.
ولقد اهتم الفنان هنا بالإضاءة، وكعادته فإن إضاءته لعناصره إضاءة ذاتية يوجهها كيفما شاء لينير بها أبطال أعماله وأهم العناصر بها …
ذلك هو الفنان محمود سعيد عاشق الضوء الذى ظل يبحث عنه بداخل عناصرلوحاته وبين جنباتها .. العاشق للمرأة المصرية بكل تفاصيلها وبشغفها الذى تنطق به ملامحها وقسمات وجهها ولونها النحاسى والأسمر المستمد من لون أرضمصر وملابسها التى تروى لنا قصة كفاحها للحفاظ على تراث مصر .