كتبها- وليد شاهين
أحدث طفرةً هائلة فى فن التنغيم بآي القرآن الكريم.. ولُقِبَ بسيد القراء وإمام المنشدين ومقرئ الأسرة الملكية
تتلمذ على يديه عظماء النغم وملوك دولة التلاوة فى عصرها الذهبى
عندما تستمع إليه تعود بك الذاكرة إلى أيام الصبا والطفولة.. هو تراثاً حقيقياً للأصوات الأولى التى تم توثيقها من خلال اسطوانات الفونوغراف بعد اختراعه عام 1877.. وظل يشدو ويصدح قراءةً وإنشاداً حتى ظهور الإذاعة.. فكان منشداً له آهات لها دوي كدويّ البحر الزاخر.. وقارئاً له قرارات تنساب معه العبرات إعجاباً وتأثراً.. فهو صاحب موهبة صوتية وموسيقية تعلم منها عظماء النغم وملوك دولة التلاوة فى عصرها الذهبى خلال المائة عام الماضية.. أحدث طفرةً هائلة فى فن التنغيم بآي القرآن الكريم.. فاشتهر بين الناس بـ “سيد القراء” و”إمام المنشدين” و”مقرئ الأسرة الملكية”.
وُلِدَ الشيخ على محمود عام 1878 بدرب الحجازي في كفر الزغاري من قسم الجمالية المجاور للمسجد الحسينى والقريب من الجامع الأزهر الشريف، وكانت أسرته ميسورة الحال، ولد الشيخ “على” طفلاً معافى صحيح البدن، وفى صغره تعرض لحادث فقد على أثره بصره، ألحقه أهله بعد هذه الحادثة لحفظ القرآن الكريم في كُتَّاب الشيخ “أبوهاشم الشبراوي” الملحق بمسجد أم الغلام، ثم أخذ علوم القرآن وأحكام التجويد عن الشيخ “مبروك حسنين” في الأزهر الشريف، وتلقى مبادئ الفقه على يد الشيخ “عبدالقادر المازني”.
أجاد الشيخ “على محمود” فى صغره تعلم المقامات الموسيقية على يد الشيخ “إبراهيم المغربي”، وعرف ضروب التلحين والعزف وحفظ مجموعة كبيرة من الموشحات، إلى جانب إلمامه بأصول التجويد وعلوم القراءات المختلفة، ووظف ذلك كله فى تلاوة القرآن بصوت شجى وعذب، حتى تم تعيينه مقرئاً بالمسجد الحسينى، فذاع صيته وتوهجت شهرته وتحلق حوله رواد المسجد في زمن شهد فحول القراء من أمثال الشيوخ ” حنفي برعي، وحسين الصواف، وأحمد ندا، ومنصور بدّار، وحسن المناخلي، ومحمد القهاوي”.
تفتح وعي الفتى “على محمود” على ما إنطوى عليه الإنشاد الديني من ألوان موسيقية ساحرة، فتعلق بها قلبه، ومضى ينهل من معينه العذب الذي يتدفق إلي جوار مسجد الحسين في ليالي رمضان الساهرة وغيرها من المناسبات الدينية، حتى تشبعت نفسه بأسرار الإنشاد الديني وفنونه، فانطلق صوته في مناسبات الإنشاد ليبهر الشيوخ قبل الجمهور.
تطور الشيخ “على محمود” من أداءه وأثقل مواهبه حتى أصبح أحد أشهر أعلام مصر، قارئاً ومنشداً ومطرباً، واشتهر بأذانه في مسجد الحسين كل أسبوع على مقام موسيقى لا يكرره إلا بعد مضى عام كامل، كما صار منشد مصر الأول الذي لا يجابهه أحد في تطوير وابتكار الأساليب والأنغام.
وعلى الرغمن الشهرة الكبيرة التى حققها الشيخ “على” فى عصره وقبل ظهور الإذاعة، إلا أنه عند بدء البث الأول للإذاعة فى 31 مايو 1934 لم تستعن له آنذاك ليقرأ القرآن فى مستهل بثها اليوم، واستعاضت عنه بالشيخ محمد رفعت، لكن الإذاعة قدمته للجمهور لفترة طويلة من خلال تواشيحه ووصلاته الإنشادية.
استمرت الإذاعة في اعتماد الشيخ “على محمود” كمغن أو كمنشد في برامجها، حتى تحقق ما تمناه الشيخ وأذيعت له التلاوة الأولى كقارئ معتمد ببرامج الإذاعة المصرية في السابعة وخمس عشرة دقيقة من مساء يوم الإثنين 15 جمادى الأولى سنة 1358هـ الموافق 3 يوليو 1939، وتضمنت التلاوة التي جاءت من بداية المصحف “فاتحة الكتاب” والربعين الأول والثاني من سورة “البقرة”، وبلغ زمن تلك التلاوة أربعين دقيقة، واعتمدت الإذاعة منذ ذلك اليوم الشيخ “علي محمود” قارئاً للقرآن مساء يوم الإثنين من كل أسبوع، لتتوالى بعد ذلك وبانتظام لم تقطعه مشاركات الشيخ في الاحتفالات الخاصة بالمناسبات الدينية، ومنها حفل أقيم بدار الأوبرا الملكية بالقاهرة في ذكرى عقد قران الملك فاروق والملكة فريدة، حيث افتتح الشيخ “علي” وقائع الحفل بعد عزف السلام الملكي بتلاوة قرآنية بلغ زمنها ربع الساعة، وهو الذي أنشد عقد قران ولي عهد إيران وشقيقة الملك فاروق.
تتلمذ على يد الشيخ “على” أشهر النوابغ الذين اكتشفهم بنفسه، ومنهم الشيخ “محمد رفعت” الذي استمع إليه الشيخ سنة 1918 وتنبأ له بمستقبل باهر وبكى عندما عرف أنه فاقداً للبصر، واكتشف أيضاً الشيخ “طه الفشني” الذى كان عضواً فى بطانته، والشيخ “كامل يوسف البهتيمي” والشيخ “محمد الفيومي” والشيخ “عبد السميع بيومى”، وإمام الملحنين الشيخ “زكريا أحمد” وموسيقار الأجيال “محمد عبدالوهاب”، وقد تعلم علي يديه الكثيرون فنون الموسيقى، ومنهم كوكب الشرق “أم كلثوم” و “أسمهان”.
رحل شيخنا الجليل “علي محمود” يوم الأربعاء 24 من ذى الحجة سنة 1362هـ الموافق 22 ديسمبر 1943، بعد أن أثرى المكتبة الدّينية والموسيقية بإبداعاته تاركاً عدداً غير كثير من التسجيلات التي تعد تحفاً فنية رائعة من سور القرآن الكريم والتواشيح والتى اعتادت إذاعة القرآن الكريم إتحاف مسامع جمهورها فى أرجاء الأرض بها خاصةً فى الشهر الفضيل.
قال عنه الأديب الراحل محمد فهمى عبد اللطيف: “وكأني بهذا الرجل كان يجمع في أوتار صوته كل آلات الطّرب.. فإذا شاء جرى به في نغمة العود أو الكمان، أو شدا به شدو الكروان.. وقد حباه الله ليناً في الصوت، وامتداداً في النَّفَس”.