———-
✍بقلم الأديب :
أحمد رفاعي آدم
من المفارقات العجيبة والتناقضات المريبة في واقعنا المعاصر أنك ترى تَهدُم جسور الاتصال وهيمنة العزلة في زمن مواقع التواصل الاجتماعي وفي ظل الشبكة العنكبوتية التي كان من المفترض أن تجعل العالم قرية صغيرة، ففي الوقت الذي يحقق فيه العالم من حولنا أكبر المكاسب والأرباح من التكنولوجيا نغوص نحن في وحل سلبياتها حتى ركبنا.
وهذا بدوره قد ساهم بقدر كبير في توسيع الفجوة بين الآباء والأبناء لدرجة تعذر معها الحوار وتعطل التفاهم وأضحى من الصعب أن يلتقي الطرفان في منطقة وسطى يجدان فيها حلولاً ترضي جميع الأطراف.
إنه أمرٌ محزنٌ! وأسباب تلك الأزمة كثيرة أبرزها الاغتراب الأسري الذي ساهم بشكل كبير في قطع العلاقات وهدم الجسور بين أفراد الأسرة الواحدة، بله المجتمع كله.
لم يعد هناك حوار وإن شاءت الظروف ليولد حوار فإنه لا يدوم وسرعان ما يفضي إلى لا شي وسبب ذلك يتلخص في الفرار من الحق الثابت وانكار الأخذ بالمبادئ الحقيقية. لقد أصبح لكلٍ منا قانونه ودستوره ومبادئه الخاصة التي يستند عليها، ضارباً بقوانين الشريعة ومبادئ الحياة وتقاليد المجتمع عرض الحائط. فترى الشاب يرتكن إلى رأيه ويتمسك بقراره لا لشيءٍ إلا أنه يرى ذلك ويعجبه ويوافق هواه، فإذا مضيت تصحح له فهمه وتقوم له تصرفه لم يرض عنك ولم يعطك حتى فرصة إسداء النصح والارشاد. والأدهى والأمَرُّ أن يتخذ ممن في نفس عمره وقلة خبرته مستشاراً لأفعاله يمنحه صك التصرف والتعامل والفعل ورد الفعل.
كل ذلك وسع الفوارق والمسافات بين الآباء وأبنائهم. لقد أضحت مهمة عسيرة وشبه مستحيلة أن يتمكن الآباء والأمهات من إقناع أبنائهم بأمرٍ ما، إذا قال الكبير شَرِّق غرَّبَ الصغير والعكس هو الصحيح. ثاني الأسباب هو نتيجة حتمية ومنطقية للسبب الأول، إنها الأزمات النفسية التي يخلقها الاغتراب الأسري. كيف لا ومن أهم مبادئ الصحة النفسية وجود جو من الاستقرار الأسري يشيع دفئاً وحناناً ورحمة. فسبحان الذي جعل ثمرة الزواح المودة والرحمة. تلك المودة التي تحقق السكينة وتنشر الأمان على الجميع كباراً وصغاراً.
لقد أصابت الأمراض النفسية الأبناء والتي بلغت في بعض الأحيان حداً مرعباً انتهى بالإدمان أو الجريمة أو الانتحار أو كل ذلك جميعاً. وذلك يقودنا إلى سببين آخرين لكنهما متناقضين ألا وهما تقصير الآباء والأمهات من ناحية وعدم تحمل الأبناء للمسؤولية من ناحية أخرى.
لا أدري على وجه الدقة أيهما يبدأ الأول .. إنها لعبةالبيضة أم الدجاجة. وبغض النظر عن ذلك فإن النتيجة في الحالتين واحدة؛ مزيد من التفكك والخصام والعدوانية وبالتالي كثير من الأزمات النفسية والاغتراب الأسري. فما العلاج؟ الإنسان الذكي هو من يتمكن من تحصيل خبرات إنسانية نابعة من ممارسته للحياة وانغماسه في المجتمع واحتكاكه بأفراده ثم يستخلص -مع الزمن- ما ينفعه فيأتيه وما يضره فيبتعد عنه.
وإذا أردنا تحسين العلاقة بين الأجيال علينا أولاً أن نبحث في جعبة الماضي القريب ونستخرج الركائز القوية والأسس السليمة التي قامت عليها العلاقات الناجحة داخل الأسرة وخارجها. خذ عندك مثلاً أسلوب الحوار المحترم وما يتضمنه من ألفاظ غاية في الرقي، ناهيك عن نبرة الصوت الهادئة التي قلما كانت تعلو فإن علت لا تلبث أن تخفت فتلين معها الملامح وتهدأ النفوس! ومثال آخر رأيناه كثيراً في مشاهد من دراما الزمن الجميل حين كان يطأطئ الابن رأسه في خشوع لرأي والده أو والدته مستسلماً في اقتناع أنهما أعلم منه بالمصلحة .
أعزائي القراء؛ لا سبيل إلى ردم الهوة السحيقة التي تهدد جسور التواصل الأسري إلا بإعلاء القيم والأخلاق ومبادئ الاحترام مجدداً جنباً إلى جنب مع تهذيب ورقي أسلوب الحوار والاختلاف في رحمة ولين. فالراحمون يرحمهم الرحمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وعلمنا أيضاً وهو القدوة الحسنة أنه ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نُزع الرفق من شيءٍ إلا شانه.
كفانا اغتراباً داخل جدران البيت الواحد، فلنتراحم وليشمل الكبيرُ الصغيرَ بعطفه ورفقه، وليبرزَ الصغيرُ للكبير كل اللين والاحترام والتقدير حتى تلتحم جسور التواصل والتفاهم داخل بيوتنا من جديد عسى يوماً تختفي المشكلات-على الأقل الصغيرة منها- بلا رجعة! ولنتحاكم إلى العقل ونحسن توجيهه فلا مندوحة لنا عن بوصلته.