بقلم ✍️ أ.د مها عبدالقادر
(أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة جامعة الأزهر)
اتسم العصر الراهن بثورةٍ معلوماتيةٍ غير مسبوقةٍ في تاريخ الشعوب، ثورةٌ ثالثةٌ عابرة القارات، لا تعرف الزمان ولا تهتم بالمكان، ثورةٌ معرفيةٌ ناقلةٌ تخترق ثقافات الشعوب، وتقنيةٌ فائقة الدقة في الاتصالات لا تعرف الحدود؛ حيث أن المعرفة العلمية تتطور بشكلٍ مذهلٍ وغير متوقعٍ، فاستطاعت تحطيم ثوابت الفكر، ويواجه العالم الآن عدة تحدياتٍ كبيرةٍ تتطلب منه أن يأخذ بزمام المبادرة حتى يتفاعل مع المستقبل، ومن هذه التحديات تحدي الرقمية، ومن خلال الواقع المعلوماتي والتسارع التقني في مجال تقنيات الحاسبات والتسارع في امتلاكها لمواكبة التطور العالمي في مجالات المعلوماتية، بدأت تظهر إلى العيان الهوة الكبيرة والذي يطلق عليه الفجوة الرقمية.
وشاع استخدام الفجوة الرقمية في خطاب التنمية المعلوماتية وأجمع على ضرورة أن يتحرك خطاب الفجوة الرقمية في الأساس من مشكلة الفقر، والإقرار بأن تكنولوجيا المعلومات لا تكفي وحدها لإحداث التنمية؛ حيث إن الأهم في أولويات الدول الفقيرة والنامية هي الطعام والصحة والتعليم، وليس توفير الكمبيوتر والنفاذ إلى الإنترنت فقط، ومن هنا يكون تجاوز فجوة الرقمية بالبناء من الأسفل عن طريق الاهتمام ببناء البنى التحتية وجعل تنمية الجماعات المحلية نقطة الانطلاق الأساسية لتنمية المجتمع.
وتُعرف الفجوة الرقمية بأنها الفرق بين من يملك المعلومات ومن يفتقدها، وبين من يسهم في صنع تكنولوجيات المعلومات والاتصالات واستغلالها ومن يتم استبعادهم كليا أو جزئيا من حلبة السباق المعلوماتي، فهي تتناول الدورة الكاملة لعملية اكتساب المعرفة والنفاذ إلى مصادرها واستيعابها، وتوظيفها، وتوليد المعرفة الجديدة بين الأفراد والهيئات وعلى المستوى العالمي، لكي يصبح المجتمع مجتمعاً متعلماً صانعاً للمعرفة قادراً على ردم الفجوة الرقمية والمعرفية وبناء مجتمع المعرفة والمعلومات.
وتوضح الفجوة الرقمية درجة التفاوت في مستوى التقدم (سواء بالاستخدام أو الإنتاج) في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بين بلدٍ وآخرٍ أو تكتلٍ وآخرٍ أو داخل البلد الواحد فهي تعني بتوضيح أوجه اللامساواة لامتلاك إمكانيات بلوغ المعلومة والمعرفة والمساهمة في إنتاجها، والقدرة علي استخدام الشبكات الدولية للاتصالات، وكذا الاستفادة من مقدرات التنمية الهائلة التي توفرها تكنولوجيا الإعلام والاتصال، ولابد أن تؤخذ في الاعتبار عواملٌ أخرى منها الفروق القائمة بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية، واختلاف الأعمار، واختلاف مستويات التعليم لأنها أمورٌ تسهم في وجود وتعميق الفجوة الرقمية.
ونتيجةً لحداثة الفجوة الرقمية اعتبرت قضيةً تعليميةً، ومظهراً لعدم المساواة في النفاذ إلى فرص التعليم ولابد من إكساب المتعلم القدرة على التعلم ذاتياً مدى الحياة وعلى اتساعها، باستخدام الإمكانيات التي تتيحها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وفى مقدمتها الإنترنت؛ وبذلك فهي ضربٌ من عدم المساواة الاجتماعية خاصةً في الدخل والسن والنوع ومستوى التعليم وبين الحضر والريف ولابد من توفير الشروط الاجتماعية والثقافية التي تساعد على توطين التكنولوجيا في التربية المحلية، وهو ما يستوجب إعطاء الأولوية للتأهيل الفردي من خلال التعليم والتدريب والتوعية واستغلال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لإشاعة الديمقراطية.
وهي لم تنشأ من فراغٍ بل هناك أسبابٌ أدت إلي ظهورها وهي أسبابٌ تكنولوجيةٌ واقتصاديةٌ، وسياسيةٌ، واجتماعيةٌ وثقافيةٌ، منها قلة مواكبة التعليم المقدم لمتطلبات واحتياجات سوق العمل، والأمية بكافة أنواعها (القرائية والوظيفية والمعلوماتية والعلمية والحضارية والثقافية والتكنولوجية والبيئية ….)؛ فكلما ارتفعت نسبة الأمية أدى ذلك إلى اتساع الفجوة الرقمية، كما أن الفرق بين الدخل في الدول النامية والمتقدمة وبين الأفراد داخل الدولة الواحدة، وأيضاً الفجوة اللغوية؛ حيث تلعب اللغة دوراً رئيسياً في اقتصاد المعرفة لذلك يعد التخلف اللغوي من الأسباب الرئيسية للفجوة الرقمية ولذلك تسعى جميع الدول حالياً إلى الاهتمام بلغتها القومية خاصةً فيما يتعلق بعلاقتها بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات عموماً والإنترنت بصفةٍ خاصةٍ والاهتمام بتعريب العلوم باللغة القومية، هذا الي جانب قلة تبني برامج التعليم التصحيحي وإعادة تأهيل الكبار.
وقد أصبح التحول الرقمي ضرورةً ملحةً وأساس النهضة وإحداث التغيرات التنموية؛ لذا تسعى الدولة المصرية بصورةٍ جادةٍ لمواكبة التطورات العالمية في كافة المجالات، إيمانًا منها بأهمية اللحاق بركب التطور والحداثة، والقضاء علي الفجوة الرقمية، واعتبرها أحد الأهداف الرئيسة للتحول الرقمي في مصر والقضاء على الفجوة الرقمية بين الشرائح المختلفة في المجتمع، وضمان توفر الفرص الرقمية للجميع، ويعتبر ذلك أمرًا هامًا لتحقيق التنمية المستدامة وتأمين المشاركة الشاملة في الاقتصاد الرقمي فالدولة المصرية تدرك أهمية التحول الرقمي وتعمل جاهدةً لتحقيقه وتحقيق التقدم والتنمية.
كما تهدف الدولة المصرية إلى ضمان الاتصالات وتوسيع شبكة الإنترنت في البلاد، واستخدام التكنولوجيا الرقمية في القطاعات الحكومية والخدمات العامة بالإضافة إلى ذلك، تعمل الحكومة المصرية على توطين التعليم الرقمي وتطوير المهارات الرقمية للشباب، وتشجيع ريادة الأعمال التكنولوجية والابتكار، كما تسعى الدولة أيضًا إلى تحسين البنية التحتية التكنولوجية ونشر ثقافة الأمن السيبراني لحماية البيانات والمعلومات.
وتبذل في تحقيق هذا الهدف العديد من الجهود للتحول الرقمي؛ الذي يؤدي الي انتقال أعمال المؤسسات من نظامها السائد لنظامٍ قائمٍ على توظيف التقنية الرقمية في أداء أعمالها، لاستكمال بناء الجمهورية الجديدة بسواعد أولادها في إطار تخطيط ووحدةٍ مؤسسيةٍ منظمةٍ تسهم في دعم مؤسسات الدولة؛ حيث تعمل على تجديد البنية التحتية الرقمية، التي شهدت تغيراً ملموساً في الأداء؛ لذا باتت فرص التحول الرقمي كبيرةً ومتناميةً ومحققةً.
فالتحول الرقمي يساعد على انتقال المؤسسات للفضاء الإلكتروني بواسطة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات للمساعدة في إنجاز الأعمال وتطوير الخدمات بجودةٍ عاليةٍ بما ينعكس على الأداء المؤسسي، وتسعي الدولة المصرية بالجمهورية الجديدة في ضوء رؤيتها (2030)؛ لتقديم خدماتٍ رقميةٍ متكاملةٍ ومتعددةٍ للمواطنين في كافة مجالات الحياة، ولتحقيق ذلك أهتمت بإنشاء وصيانة البنية التحتية الرقمية (التقنية) لتقديم خدماتٍ متكاملةٍ تتسم بالدقة والسرعة، وتقلل من الهدر في الطاقة البشرية والمادية، وتقضي على أوجه الفساد المحتملة، وتوفر المساحات المكانية والاستيعابية، وإحداث نقلاتٍ نوعيةٍ في كل ما تقدمه الدولة من خدماتٍ في شتى المجالات التي تخدم الفرد والمؤسسة على سواءٍ.
كما يحقق للمؤسسات التي تتبناه، العديد من الفوائد؛ كتوفير الوقت والجهد والمال، والتحسين والتطوير، والحدّ من المشكلات، والتغلب على ما يطرأ من صعوباتٍ ومواجهة التحديات وخاصةً الفجوة الرقمية وما يترتب عليها من فجوةٍ بين الأجيال، كما يعمل علي تحفيز الهمم، وتجديد الأفكار وشحذ الفكر، مما يؤدي إلى مزيدٍ من الابتكار والأبداع، وصولًا إلى تحقيق الريادة والتنافسية في المجالات المختلفة، ويعتمد نجاح التحول الرقمي على توافر البنية التحتية والفوقية التقنية، وعلى القدرات والمهارات النوعية التي يمتلكها الأفراد، وعلى الوعي الإيجابي بضرورة التحول الرقمي واستخدام تقنياته للوصول وتحقيق جودة الحياة التي يحلم بها الفرد والمجتمع؛ لتحقق التنمية والنهضة التي يصبو لها الأفراد والمجتمع وتتوالي الإنجازات واللحاق بركب التطور والتقدم وتحقيق التنمية الشاملة المستدامة.