محمد جبريل
لأن العامية غالبة على لغة معظم المصريين، بصرف النظر عن قدراتهم التعليمية، ومكانتهم الثقافية عمومًا، فإنهم يجيبون عن أسئلة الفصحى بالعامية، ثقة أنها اللهجة التي يسهل فهمها.
العامية المصرية استثناء بين العاميات، أو اللهجات، العريية، تزكيها سهولة تلقيها، وسعة انتشارها.
مع ذلك، فإن المتحدثين بالعامية من مثقفينا، يواجهون – في لقاءاتهم العلمية – مآزق، أشهد أني عانيت أحدها لما شاركت في بعثة المركز العربي للدراسات والتنمية والتعمير إلى نواكشوط لإنشاء أول جريدة موريتانية ( 1975 ).
علت ضحكات الدارسين عندما خدشت الفصحي بمفردات تقنية من العامية المصرية. صارحني عضو البعثة، الإذاعي الراحل محمد فتحي، أن المفردات التي استعملتها يختلف معناها في نواكشوط بصورة معيبة!.
تذكرت استياء أدباء السودان من وصف يوسف إدريس لتقليد شعبي مصري، بكلمة لها معناها المغاير، المناقض، في اللهجة السودانية!
في دراسة لأستاذنا سليمان حزين عن لهجات اللغة العربية، أثبت أن لهجة الحضارمة هي الأقرب إلى العربية الفصحى, وهو رأي استند إلى تحليلات علمية موثقة، لكنها ظلت في دائرة الحوار الضيق أمام المساحة الهائلة التي حصلت عليها العامية المصرية، من خلال دخول الدراما كل البيوت في أقطار الوطن العربي، إلى حد تخاطب مواطنيها – أحيانًا – بمفردات العامية المصرية.
كان الصحفي العماني الشاب الراحل ناصر التميمي يداعبني بالقول: لهجتكم جميلة.. كلمني بها!.
وفي قناة فضائية عربية يحرص المذيع، التونسي الجنسية، أن يتجه إلى مشاهديه بمفردات العامية المصرية لإدراكه أنها الأسهل في التلقي بين المواطنين العرب.
اللهجات المحلية وسيلة تخاطب في كل الدنيا. قد تتغير من إقليم إلى آخر في البلد الواحد. لهجة أبناء روما تختلف – إلى حد كبير – عن لهجة أبناء المدينة الساحلية نابولي. وفي الإنجليزية عشرات اللهجات واللكنات. قد يستعصى فهمها على المتلقي في عديد البلدان، برغم أن اللغة واحدة. هل هي كذلك في انجلترا والولايات المتحدة؟
وفي مصرنا، تختلف اللهجة السكندرية عن لهجات مدن السواحل، ومدن الجنوب، ولهجة القاهرة كذلك. لكل إقليم لهجته التي نفطن إلى هوية صاحبها بمجرد أن يبدأ الكلام.
أذكر أن المستشرق الفرنسي الأب جاك جومييه وضع معجمًا بمفردات العامية المصرية، ليتجاوز الأجانب الذين يجيدون الفصحى مزالق التخاطب بالعامية. ظني أن الرجل – لو أمد الله في عمره – ربما أضاف ملاحق لمستحدثات العامية المصرية من أفواه الأفاضل محمد رمضان وأوكا وأورتيجا وحمو بيكا وحسن شاكوش إلى آخر القائمة!
العامية لهجة، وليست لغة، وإن كنت لا أخفي افتتاني بشعر العامية المصرية!
أشفق على من لا يحسنون النطق – في وسائل الإعلام – بغير العامية، تصورًا أنها الأسهل على الآذان والشفاه العربية. ثمة لهجات أخرى تتناثر – بدرجة وبأخرى – في الإعلام العربي، قد تتسع مساحتها من خلال التغير الذي يبدّل الفكرة الثابتة.
فاهمني؟
بدلاً من محاولات تقويض اللغة العربية بفرض اللهجات المحلية فى السرد، أو فى الحوار، علينا أن نعنى بنشر العربية، فتحصل على فرصتها الفعلية التى أتاحها لها المجتمع الدولى، حين جعلها لغة أساسية فى مؤسسات الأمم المتحدة ..
الفصحى هي لغة الكثير من معلقي المباريات الرياضية. يعرف المعلق أنه يتوجه بكلماته إلى مشاهدين اعتادوا التلقي – عبر البرامج الإخبارية والسياسية – بالفصحى المبسطة. بل إن الفصحى تداخل عامية المعلقين المصريين، أو الكلمات الأجنبية الأصل، بمفردات لم يكن يعرفها قاموسنا الرياضي اللغوي، كالقول الجناح الأيمن ( ونج يمين )، الجناح الأيسر ( ونج شمال) ، المهاجم ( الفرود )، المدافع ( الدفنس ) التسلل ( الأوفسايد )، ضربة الجزاء ( البنالتي )، ركلات الترجيح، إلخ.
الحوار يبدو سهلًا بين االمثقفين العرب، والأجانب الذين تعلموا اللغة العربية. كل طرف يعني بضبط النطق والقواعد واختيار الكلمات المعجمية، وإهمال مفردات العامية المستحدثة، بينما تنشأ الأحاجي والألغاز عندما يتكلم مواطن عربي بلهجة بلاده!
أجد الأمل في حرص معظم القنوات الإعلامية العربية على أن تكون موادها بالفصحى، يساعدها إتقان الكثير من المثقفين للغة الأم، مواد الإعلام تركز على النطق الصحيح للغة، لا موضع للهجات واللكنات.
يحزنني – بالطبع – إقدام بعض القنوات على الترجمة المكتوبة لحوارات ضيوفها، مما يصعب فهمه – للأسف – في أقطار عربية عديدة، باللهجة التي يتحدث بها الضيف. المحاور يسأل بالفصحى، ويترك للإعداد كتابة ما غمض من ردود أسفل الشاشة.
من يدري.. لعل يومًا يأتي، أتجاوز فيه – شخصيًا – لهجتي العامية إلى الفصحى، وهو ما عجزت عنه.. حتى الآن!