كلمة ” الثقافة ” مشتقة من فعل ” ثقف “، ومعناه ظرف، وصار حاذقًا خفيفًا. ومنه تثقيف الرمح، بمعنى تسويتها، وإزالة عقدها، حتى تصبح مستوية وخفيفة، فالرمح المثقف هو الرمح السوى الخالى من العقد. وكلمة ” المثقف ” لم تعرف إلا فى العقد الثالث من القرن العشرين، وكان التعبير المقابل هو ” المتعلم “.
لعل سلامة موسى هو أول من استخدم كلمة ثقافة، مرادفًا، أو ترجمة لكلمة Culshur الإنجليزية. وهى كلمة تعني الحضارة، فالثقافة – حسب التعبير الذي استخدمه سلامة موسى – تعني الحضارة. والثقافة في الفرنسية Cuture ومعناها الحرفي ” الزرع “، فهي التعليم الذي يغرس المعرفة في النفوس. وثمة تعريف للثقافة بأنها ” مجموع العالم الاجتماعي الذي يصنعه البشر ”
أما الثقافة – بالمعنى الذى نستخدمه – فإن الكلمة المناسبة هي ” المعرفة “، والمثقف بالتالي هو الذى يحيط بكل معارف عصره سواء تبحّر فيها وتعمّق أم توقف عند حد ما. عندما تتجاوز الثقافة معنى المعرفة، فإنها تتحول من استاتيكية إلى دينامية، تغيّر، وتضيف. بل إنها تصل بالعلم والتقدم بوشائج شتى.
بالطبع، فإن الثقافة ليست مجرد المعرفة. ليست مجرد زيادة حصيلة المعرفة، ولا مجرد إضافة أرفف جديدة من المعلومات في داخل الذهن الإنساني، لكنها اسهامات متجددة ، ومطلوبة، في تحقيق التفاعل بين المرء والعالم الذى يحيا فيه، وفي تعميق رؤيته الأكثر اتساعاً للأفراد، وللجماعة التى ينتسب إليها، وللعالم.
حسب اجتهادي الشخصى، فإن الثقافة بمعنى قراءة الكتاب، وسماع المقطوعة الموسيقية، ومشاهدة المسرحية أو الفيلم.. هذه الثقافة ليست سوى ” معرفة “. يتعلم المرء جديدًا يضيفه إلى مخزونه المعرفي. أما الثقافة – بالمعنى الذي أقدره – فإطارها السلوك، الفعل، التصرف. المثقف هو الإنسان ذو المعرفة والموقف الحضاري فى آن. لا قيمة لقراءة الكتب وسماع الإذاعات ومشاهدة المسرح والسينما والقنوات الفضائية، ما لم يلتحم بذلك كله سلوك يعني بالتطبيق الإيجابي، والفعال، لكل ما حصّله المرء من معرفة. إذا أفاد المرء من معرفته في تصرف إيجابي، فذلك تصرف مثقف، والثقافة صفة يصح أن نطلقها على صاحبه. ثمة متعلمون يحملون في رءوسهم ما حفظوه، دون أن يشغلهم التطبيق، يفيدون من ذاكرتهم الحافظية أو الاستيعابية، لكنهم لا يحاولون الإفادة مما أودعوه ذاكرتهم في الإضافة والتطوير. وأستعير من أستاذنا زكي نجيب محمود قوله إن الثقافة هي الروح التى تسري لتدفع ذلك البناء المعرفي، المعلومات والعلوم، نحو غايات معينة، يريد الإنسان تحقيقها.
الثقافة إذن ليست مجرد معلومات نظرية، لكنها حصيلة لجميع المعلومات التى يكتسبها المرء خلال حياته، واستخدامها بصورة مفيدة وإيجابية وفعالة. وبتعبير آخر، فإن الثقافة ليست في الحصول على الشهادات الدراسية، وإنما في خلق الوعي الكامل عند الحاصلين على تلك الشهادات في تعدد مستوياتها، والمثقف ليس هو الذى يملك أكبر قدر من المعرفة، لكنه الذي يمتلك أكبر قدر من الوعي. لقد تحقق له الوعي بالمعرفة، وأفاد من هذا الوعي في تقرير المناسب والأفضل والأجمل، التصرف في ضوء سلوكيات تحاول الصواب.
والقول بأن المثقف هو ذلك الذى يعرف من كل شيء خلاصته، واعتبار العقاد مثلًا لذلك المثقف، ينطوى على مغالطة، لأنه لا يوجد فى عصرنا من يعرف من كل شيء خلاصته. ثورة المعلومات جعلت السير فى مساحتها الواسعة أمرًا مستحيلًا. ولو أن المثقف العظيم سقراط جاء فى زمننا الحالى، فإنه سيواجه موقفاً أكثر تعقيداً من الموقف الذى واجهه المنيكلى باشا فى حديث عيسى بن هشام، ستبدو ” ثقافة ” الرجل لا شيء أمام ” ثقافة ” أي طفل في المرحلة الابتدائية، فهو إذن كان قد حصل – فى عصره – على ” معرفة ” تفوق ما كان لدى الآخرين، وأفادت منها ذاكرته الحافظية، واستيعابه، وإجادة استخدامه لمخزونه المعرفي. حصل الرجل على المعرفة.
أما الثقافة، فهي السلوكيات، أو التصرفات، التي أفادت مما حصل عليه من معارف. الثقافة خطوة تالية بعد التعلم، بعد المعرفة، مرحلة ما من التعلم، قد تكون أولية أو عالية. إنها ـ كما يقول أندريه مالرو ـ ما يأتى فيما بعد.
إن المرء الذى يرافق، أو يلي، ” معرفته ” فعل إيجابى، يضيف، ويطور، هو الذي يصلح لأن تطلق عليه كلمة ” مثقف “. ومن الخطأ أن أقصر الثقافة على قطاع محدد، ومحدود، من أفراد المجتمع، لأن المعرفة – إذا أفاد منها المرء، بصرف النظر عن مستواه التعليمى – تصنع إنسانًا مثقفًا. بل إن الجهل بالقراءة والكتابة لا يحول دون تحصيل قدر كبير من المعرفة، وممارسة الفعل الثقافي.
المعرفة بعد مهم فى الثقافة، لكنها ليست كل الأبعاد. ثمة أبعاد أكثر أهمية تجاوز التلقي السلبي، فتحيله فعلًا إيجابيًا لصالح الفرد والجماعة والبيئة. الثقافة تالية للمعرفة. السلوك هو التطبيق لما نتعلمه، لما نحصل عليه من معرفة، بمعنى أن المعرفة هي النظرية، أما الثقافة فهي التطبيق. وقد نتعلم النظرية، لكننا لا نحاول التطبيق، والعكس – هنا – ليس صحيحًا. ولعله يمكن القول أن المعرفة – أو التعليم – هى واسطة نقل الثقافة. أوافق على أن الثقافة ” عناية بالذهن كى يعطى مردوداً أفضل، كما أن الزراعة هى عناية بالأرض كى تعطى مردوداً أفضل “.
الإنسان المثقف لن يقبل بواقع متخلف. إنه – فى الأقل – سيعرف القيمة المادية للأشياء. ويحضرني ما قاله حكيم إفريقي: ” إن الثقافة تستطيع أن تأخذ الإنسان إلى تل أعلى مما يمكن أن نرى عند الأفق، ثم تجعله ينظر فيما وراءه ”
خلاصة الأمر أن المثقف ليس هو الذى يعرف. فالثقافة – كما قلنا – غير المعرفة، أو هي غاية للمعرفة. وقد يحصل المرء على المعرفة، لكن سلوكياته تنأى به عن أن يكون مثقفا. إنه لا يسلك سلوك المثقفين. لا يسلك سلوكاً متحضرًا. الثقافة سلوك، أسلوب حياة، تأثر ومحاولة للتأثير. للتأثر والتأثير دورهما الذى يصعب إغفاله في تكوين الحس الثقافي.
الثقافة هى المفتاح السحري للإفادة من الماضي، والتعامل مع الحاضر، واستشراف المستقبل. إنها – في المجتمعات النامية بخاصة – تعنى إفادة المواطن من كل التطورات العلمية والتقنية والاقتصادية التى يشهدها عالمنا المعاصر، فهو قد يفكر – ولعله يحاول بالفعل – أن يستخدم أساليب الزراعة الحديثة، بدلًا من تلك التي يستخدمها منذ فجر حضارته، ومن ثم يوفر كثيرًا من الوقت والجهد، ويحقق إنتاجاً أخصب وأوفر. وهو لن يكرر مأساة طه حسين، حين فقد نور عينيه بتأثير” الششم ” الذى كانت تعالج به الأم رمدًا أصابه. كذلك فإن الإنسان ” المثقف ” سيتردد طويلًا قبل أن يصدق إحدى قصص العفاريت التي تظهر على شاطئ الترعة ليلًا، أو يؤمن بما قاله ” المنجّم ” عن المال الذي سيؤول إليه من أحد أقاربه، وهو سيترك للقضاء مهمة الثأر من قاتل أبيه، بدلًا من أن يضيع حياته وحياة الآخرين، في القصاص لنفسه بيده، ويحاول المشاركة فيالحياة السياسية باعتبارها واجبًا قومياًًاإلخ..
الثقافة ليست جهدًا جزئيًا يشمل جانبًا واحدًا من جوانب نشاط الإنسان، بل هي حصيلة كلية تضم شتى جوانب النشاط البشري فى إطار شامل موحد، بل إنه ليمكنني القول – ببساطة – أن الدولة المتقدمة ستظل حلمًا ورديًا، ما لم يصبح تحقيق الثقافة بعدًا أساسيًا فى حياتنا اليومية.
لا معنى للثقافة دون ارتباط بالحياة.