حدثتك عن الإنجازات التي صنعها العلم للتقدم، ثم طوعناها– بالعلم أو بالفهلوة – إلى غير ما صنعناه من أجله.
المثل في اختراع الديناميت. أراد به ألفرد نوبل أن يفيد في عمليات العمران، فلما استخدمه البشر في عكس ما أراده نوبل، خصص الرجل جائزة سنوية باسمه، لصالح إنجاز علمي أو إنساني.
وبالطبع فإن أينشتاين لم يكن يتوقع أن يتحول اكتشافه نظرية النسبية إلى سلاح مدمر، بدأ بإفناء مدينتين يابانيتين هما هيروشيما ونجازاكي، ثم تحول إلى خيمة رعب بامتداد العالم، ما يسمى التوازن النووي، وإن بدا من أحداث أوكرانيا الحالية، أن التوازن قد يخرج – في لحظة انفعال شخصي – عن معناه، وتعود البشرية إلى بدايات العصر الحجري!.
وتابعت حوارًا تليفزيونيًا للعالم المصري أحمد زويل، وصف نفسه فيه بأنه فلاح مصري في أمريكا لا يستطيع ملاحقة التعديلات التي أدخلها الشباب المصري على أداء جهاز المحمول. وذهب زويل إلى أن التعديلات لم تخطر في بال مخترع المحمول، ولا الذين عملوا على تطويره. وزويل – كما تعلم – هو مكتشف نظرية الفيمتو ثانية التي نال بها جائزة نوبل.
والأمثلة كثيرة.
مناسبة هذا الكلام رسالة تلقيتها على الماسينجر. تبلغني بإمكانية حصولي على مبلغ ثمانية ملايين ونصف مليون دولار أمريكي. ليس من عمتي في البرازيل كما كانت تحكي لنا أفلام زمان، وإنما من شخص تايلندي اسمه أراك سوتيفونج. كتب أسفل صورته الشخصية – لا أعرف إن كانت حقيقية أم منتحلة – أنه موظف في بنك سيام التجاريScbويطلب مناقشتي في الوسيلة التي أحصل بها على ذلك المبلغ.
تتحدث الرسالة عن العناء الشديد لكاتبها حتى عثر على من يستحق المبلغ الذي أحتاج إلى أضعاف عمري حتى أحصل على نسبة منه.
صاحب المبلغ اسمه إلين جبريل، مواطن مصري كان يعمل في مجال الذهب ببانكوك،أودع وديعة ثابتة في البنك، دون أن يتاح له استردادها، أو الحصول على عائدها، فقد مات في حادثة بالقرب من مقاطعة لامفون في المنطقة الشمالية بتايلاند.
منتهى الدقة في تحديد المكان!
الرسالة تتحدث عن أن الراحل جبريل لم يذكر – عند إيداع المبلغ في 2008 لمدة مائة شهر – إن كان متزوجًا، أو له أبناء أو أقارب، يعني مقطوع من شجرة. وكانت السنة الماضية آخر تاريخ لهذا الإيداع. أضاف إلى درامية الموقف أن إدارة البنك لم تعلم – حتى الآن – بوفاة السيد إلين جبريل. لو أنهم اكتشفوا الأمر فسيحولون المبلغ لحساباتهم، فملفه يخلو من اسم أي وريث. وهو ما أثار إشفاق السيد أراك وهمته، بدأ رحلة البحث عن الوريث، وتنقل بين الأماكن، وقلب في الملفات والوثائق، حتى عثر على اسمي منتميًا إلى العائلة نفسها، والجنسية نفسها، فأنا الأحق بالمبلغ إذن.
حتى يقرب المسافة لفهمي، أو لطمعي، فقد أكد أنه ليس جشعًا، وسيكتفي بمناصفتي المبلغ ( نص ما كتبه! ) وأنهى الرجل رسالته بتنبيهي إلى ضرورة احتفاظي بسريتها، حتى يتلقي ردي العاجل من خلال بريده الإلكتروني!
الرسالة تفصح عن سذاجتها في أن السيد ألين – الذي سأرثه – من ديانة أخري، وأن اقتصار جبريل على شجرة واحدة ينفيه تعدد الأشجار الجبريلية في مصر والسودان وليبيا وبلاد أخرى، وأن مجرد تصفح دليل التليفون سيدلنا على اسم جبريل تاليًا لما يغيب عن الحصر من الأسماء. وطبيعي أن من يودع بنكًا ذلك المبلغ الضخم يصعب أن يكون بلا أهل، وبلا مجال اقتصادي يديره، حتى العمة في البرازيل يسهل البحث عن ورثتها، وهو ما شاهدناه في السينما العربية.
أزمعت أن أهمل الرسالة، ثم ناقشت الأمر. إذا كان السيد أراك قد اختار اسم جبريل ليزف إليه بشرى الثراء، فإنه سيبعث مئات – وربما آلاف– الرسائل بأسماء يحدس أنها من منطقتنا العربية.
الكثرة الغالبة ستفطن إلى سذاجة الرسالة، والقلة ستضعها ضمن رسائل تنقلها وسائل الاتصال الإلكتروني عن الجائزة المفاجأة التي تنتقل إلى حسابك في البنك بمجرد أن ترد برقم الحساب. ثم أتخيل الحسرة على ضياع شقا العمر!
محاولات النصب الإلكتروني متكررة – للأسف – في وسائل الاتصال الإلكتروني، تزف بشرى الثراء – الذي يغيب عنه السبب – باسم الأمير فلان، أو الأمير علان، وتختار اسمًا له ذيوعه الإعلامي بين أمراء الخليج، وبرغم النفي المتكرر لهذه الرسائل، فإن إلحاحها يشي بتصديق بعض الحالمين بسوق العيش.
ولتخوفي من تأثيرات الكورونا، فقد رحبت – بواسطة الواتس والماسينجر –بشراء ما أتسلمه على باب الشقة، بضائع جيدة، بأسعار معقولة، ولا مقابل انتقال. وتبينت – في العديد من المرات – أني وقعت ضحية للاعبي الثلاث ورقات. نسيت الدروس المستفادة، وأن التكرار يعلم الشطار!
الإلكترونيات إضافة حقيقية في مسار التقدم الإنساني. إنها تقرب المسافات بما كان يصعب على الخيال، وتصنع من الأرقام مجتمعات متقدمة، تقفز إلى المستقبل، ولا تتجه نحوه ببطء السلحفاة، أو تجد الخير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف، لكن أمثال السيد أراك يشوهون ذلك الإنجاز البشري، العلمي، الهائل، ويفرغونه من قيمته، إلى حد نشوء تسمية جديدة هي الجرائم الإلكترونية!