لست أذكر القائل إن العرب يمتلكون كل عناصر القوة الشاملة، لكنهم يعجزون عن حشد تلك العناصر وتنظيمها، وتحويلها إلى قدرة فاعلة تفرض وجودها وتأثيرها على تطور الحياة فى العالم.
نحن – أقطار الوطن العربي – ننتمى إلى مجتمعات الفرص الضائعة. ثمة فرص الوحدة أو الاتحاد ومغالبة التخلف والتحول من الإنتاج إلى الاستهلاك والديمقراطية والقضاء على النوازع القبلية، لكننا نستهلك الوقت والجهد فى المفاضلة بين الصح والخطأ. ونحن نرفض، وندين، ونحرص على المصلحة الشخصية أكثر من حرصنا على صالح الجماعة، ونكتفى بترديد الشعارات االمبهرة دون محاولة حقيقية لتطبيقها، ونقبل بنظرة العالم لنا باعتبارنا ظاهرة صوتية: ندين ونشجب ونصرخ وننظم المظاهرات والمسيرات، وربما لجأنا إلى العنف داخل أقطارنا، فندمر ما نملكه، ثم نلزم صمتاً غير حكيم. ونحن نتبادل الاتهامات، ونرفض الآراء المختلفة، وربما وصل الأمر حد الإقدام على التصفية الجسدية لأصحاب تلك الآراء.
التقدم هو التحدي الذي يمكن أن نفلت به من عنق الزجاجة المسمى بالتخلف. هو صنع القوة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية الموازية لقوى الآخرين.
البديل لإيجاد القوة العربية الشاملة، لمجاوزة التخلف، والتحول من مجتمعات استهلاكية إلى مجتمعات إنتاجية متقدمة، هو القبول باحتلال موقع هامشي في مسار حركة العالم، أو القبول بأخطار متوقعة.
هذا هو التحدي الذي نواجهه.
التقدم لا يتحقق عبر التغنى بأمجاد السلف، ولا دعوة الأعداء للمبارزة بالسيف.. وإنما بالإصرار على التقدم، على تحقيق التنمية الشاملة في كل مجالات الحياة. والبقاء في عالم الغد لن يكون إلاّ للأقوياء وحدهم. والقوة ليست مطلقة، بل إنها لا تعني مجرد القوة المسلحة، فقد كان للاتحاد السوفييتى قواته المسلحة التي تمثل القوة العظمى الثانية فى العالم، لكنه انهار كنمر من كرتون حين حاصرته الظروف الاقتصادية القاسية.
القوة هي التقدم في كل مجالات الحياة. التقدم العلمي والتكنولوجي رهان هذا العصر، وهو الضمان الوحيد لأن يجد أي شعب موضعًا له بين شعوب العالم. ولا يخلو من دلالة أن الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان، لم يجد حديثًا يجاوز به المشكلات التي كان المجتمع الأمريكي يواجهها في نهاية عهده، مثل زيادة العجز في الميزانية، وتفاقم مشكلة المخدرات، ومرض الإيدز ( تقلصت خطورته أمام سطوة كورونا الباطشة! )، وتزايد خطر الجفاف والتلوث، وارتفاع معدل الجريمة إلخ.. لم يجد ريجان إلاّ أن يتحدث عن الإنجازات العلمية التي حققتها بلاده. تحدث عن التقدم باعتباره السبيل إلى مستقبل أفضل.
الأمن لم يعد يتحقق – في عالمنا المعاصر – بمجرد التفوق العسكري، بل يجب أن يوازيه، ويتسق معه، استراتيجية سياسية وتفوق اقتصادي واجتماعي وحضاري. وقد يأتي التفوق العسكري في النهاية من ذلك كله. المثل الذي يحضرني هو اليابان بكل ما تمثله في عالمنا المعاصر من قوة يصعب التقليل من شأنها. ولعلي أذكر قول ماكنمارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، ورئيس صندوق النقد الدولي فيما بعد، إن ” مفهوم الأمن قد أصبح مبسطًا أكثر مما ينبغي، فلم تعد مشكلة الأمن عسكرية فحسب، ومن الواضح أن القوة وحدها لاتضمن الأمن”.
استعادة الماضى مطلوبة، بل هي مهمة، شريطة ألاّ يستولى الماضي على مساحة الحاضر. إن علينا أن نستعيد الماضى لنتواصل معه، لنفيد منه في صياغة الحاضر والمستقبل، فلا نكتفى باجترار الماضي، بمجرد الحياة فيه، كمن يضع عينه في قفاه.
لم تعد مقولة الشيخ حسن العطار ” ذلك مالا تسعه عقول أمثالنا ” مقبولة في عصرنا الحالى، فلابد – لكى نحيا – أن تسع عقول أمثالنا كل إنجازات العصر. لا نكتفي بالدهشة والانبهار، وإنما ننتج ونطور، ولا نكتفي بالاستيراد والاستهلاك.
الأسئلة التي تطرح نفسها هي : هل نطور التكنولوجيا، أو في الأقل نصنعها، أو نكتفي باستيرادها؟.. هل نعد خريجًا يعمل لصالح أمته، أو للهجرة إلى الخارج؟.. هل نعد لمجتمع أصيل، أو نكتفى بتقليد المجتمعات الأوروبية؟
تقديري أن التقدم العلمي هو كلمة السر في مستقبل الوجود العربي، في موضعه بين دول العالم، في مجاوزته للتخلف والهامش إلى دور أكثر فعالية واستيعابًا لتطورات العصر. وإذا كان أمين الريحاني قد أعلن في مطالع القرن العشرين – بصوت الشرق -أنه يملك فلسفات، ويرد أن يحصل – بدلًا منها – على طائرات، فإن هذا القول أشد ما يكون حاجة إلى تطبيقه في عصرنا الراهن، بعد أن أصبحت السيادة للعلم والتكنولوجيا. الفاصل في تحقيق التقدم، هو الفاصل بين من يعلم ومن لا يعلم، من يبتكر ومن يحيا على ابتكارات الآخرين، من ينتج ومن يستهلك. وبكلمات محددة، فإن استيراد التكنولوجيا لا يخلق تقدمًا، لا يخلق دولة عصرية.
التقدم في مجال العلوم والتكنولوجيا قضية مصيرية، تعنى استمرار الحياة أو توقفها، أن نظل مصريين وعربًا، أو نندثر.
ليس التقدم مجرد قنوات فضائية وفيديو وتليفزيون وتليفون محمول ومترو أنفاق. إنه منظومة متكاملة فى التعليم والابتكار والعمل والإنتاج ومحاولة اللحاق بإيقاع العصر بخطوات مناسبة. التقدم يعنى التخلى – حالًا- عن الأنماط الاستهلاكية. نستعمل ما فكر فيه الآخرون وما اخترعوه وصنعوه، فتحل بدلًا منها أنماط إنتاجية ضرورية، لا لمجرد تحقيق التقدم، وإنما لتفادى المصير المؤكد بالحياة – إن توفرت – على هامش التاريخ والعصر والمستقبل .
العلم الذى نشتريه، غير العلم الذى نحققه بتأملاتنا وأبحاثنا وتجاربنا. شراء العلم يتساوى فيه المتقدم والمتخلف، أما إنتاج العلم فيقتصر على المتقدم وحده. ولاشك أننا نمتلك الطاقات والقدرات والإمكانات، لكننا عاجزون عن امتلاك الوسائل التى نحسن بها استخدام ذلك كله. وقد لاحظ برنامج الأمم المتحدة للبيئة، إن الجهود الحديثة للتنمية في المنطقة العربية، اعتمدت – ربما بحكم الضرورة – على النقل المكثف للتكنولوجيا من الخارج، فكانت التكنولوجيا تنقل – في أغلب الأحيان – فى صورتها المجمعة، كآلات مدينة كاملة التركيب، وهو ما أدى إلى إعادة تطوير القدرات الذاتية فيما يتعلق بالتعامل مع التكنولوجيا مثل الخبرة الفنية، وبرامج وأنظمة التشغيل، وفيما يتعلق بفهمها وفك طلاسمها وتقييمها، ومن ثم تكييفها واستغلالها بصورة اقتصادية في إطار نظم الإنتاج القومى. ولعل أوضح مثال على ابتعادنا عن التكنولوجيا، أن الفلاح حصل على التراكتور ليحقق به زيادة في الإنتاج، فاستخدمه كوسيلة مواصلات، وانخفض الإنتاج بالتالى! بل إن الحقيقة التى قد لايعرفها الكثيرون، أن الأقطار العربية لم تصنّع ” الموتور ” بعد. ربما تضيف إلى الآلة الكثير من إنتاجها، تجرى تعديلات وإضافات وتحسينات، لكن الموتور يظل إنجاز الآخرين، ولابد أن تستورده.. فهل نحن نحيا – كما قيل – أسرى حضارة الإبل؟!
إن اليابان لا تملك أي مصادر طبيعية، مع ذلك فقد حققت تقدما تكنولوجيًا مذهلًا في مجالات الاتصالات والفضاء والمعلومات والحاسب الآلي بأجياله والإلكترونيات الدقيقة والهندسة الوراثية، واستنباط عقاقير وعناصر جديدة، وصناعة مواد جديدة بديلة للمواد الخام الطبيعية في الصناعة، واستحداث محاصيل جديدة، وحل مشكلات التلوث، وكشف مناطق لم تصل إليها أقدام البشر، واستخدام طاقة الفضاء في مشروعات التنمية بالأرض، ورصد الكواكب فيما وراء المجموعة الشمسية، والانتقال من التكنولوجيا الإلكترونية إلى التكنولوجيا الرقمية، بتحويل المعلومات المسجلة إلى الصورة الرقمية، وأساسها الصفر والواحد، فتترجم الكتابة والأصوات إلى هذه الصورة، وهى الآن تفوق الولايات المتحدة، في حجم أرصدتها من الأصول المالية. أما المنطقة العربية فإنها تتمتع بكل المصادر الطبيعية التي يمكن أن تصنع تقدمًا ، فالموارد تبدأ بالزراعة، وتنتهي بالسياحة، وتمر بالثروات المائية والمعدنية والبترولية، ووفرة العمالة، ورسوم الممر المائي إلخ.. لكن الفارق بين اليابان والعرب هو الفارق بين المنتج والمستهلك. فارق الذي استكان إلى حضارة قديمة، والذى يصر على أن يخلق مدنيته الحديثة.
أذكر كتابًا بعنوان ” اليابان يمكن أن تقول لا ” – لاحظ الدلالة! – يقول الكاتب “إن الإبداع الوافر لليابانيين لا يقتصر وجوده على عدد قليل من الصفوة، لكنه شيء يمكن مشاهدته في حياة المواطنين اليابانيين بصورة عادية”.
***
يقول المثل : من لا يملك غذاءه ، لا يملك حريته..
وكانت معظم الأقطار العربية حتى بداية الستينيات من القرن الفائت، مصدرّة للكثير من السلع الغذائية والمنتجات الزراعية والغذائية، فقد اشتهرت سوريا بتصدير القمح الذي كان يزرع في منطقة حوران، وكانت تسمى ” إهراء روما “. واشتهر العراق بتصدير الشعير الجيد إلى أوروبا. واشتهرت الجزائر بتصدير القمح إلى دول أوروبا، وفي مقدمتها فرنسا. واستطاعت الدول العربية عمومًا- إبان الحرب العالمية الثانية – تزويد جيوش الحلفاء باحتياجاتها من الطعام.
والحق أن التقدم فى مجال التكنولوجيا الزراعية – وما سبق مجرد مثال – لابد أن يلازم التقدم في المجالات العلمية والتكنولوجية الأخرى. التقدمأقرب إلى نظرية الأواني المستطرقة. فما يتحقق في مجال يتوازى – بالضرورة – مع بقية المجالات. والعكس – بالطبع – صحيح، فيما عدا استثناءات تؤكد القاعدة!