العلاقة بين الأنا والآخر نبض العديد من الروايات العربية، منذ علم الدين لعلي مبارك، مرورًا بأديب لطه حسين، وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، وقنديل أم هاشم ليحيى حقي، والحي اللاتيني لسهيل إدريس، وأصوات لسليمان فياض، وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، وعشرات غيرها. حتى الروايات الحديثة التي تناقش هذه العلاقة الملتبسة من وجهات نظر، فرضتها تطورات الأوضاع العالمية، ومنها خروج الاستعمار الغربى كقوة مسلحة، لتحل – بدلاً منها – قوى الاقتصاد والميديا والتآمر وبذر الفتن.
اللافت أن الآخر الإفريقي، أو الآسيوي، أو الأمريكي اللاتيني، يغيب عن الروايات التي تناولت الحوار، أو الصراع، بين الأنا والآخر، ربما لأن الحقب الاستعمارية التي عاشها الوطن العربي قد أفرزت العديد من الـتأثيرات السلبية، الأمر الذي حدد قضية ” الأنا والآخر ” بمعناها الحضاري والمدني، تكاد تقتصر على العلاقة بين العربي والأوروبي. وهو ما يختلف عن طبيعة القضية، طبيعة الأنا والآخر، في الروايات التى كتبها مبدعون ينتمون إلى حضارات ومدنيات أخرى.
تنتسب رواية اميلي نوتومب ” ذهول ورعدة” إلى السيرة الذاتية، بتسجيل التواريخ والأماكن التي دارت فيها الأحداث، ففي يوم 8 يناير 1999 بدأت الراوية صلتها بشركة يوميموطو، وحين التفتت وراءها، بدت المدينة بعيدة جدًا، بحيث ساورها الشك أنها عاشت فيها على أي نحو.
كانت الراوية تتطلع للعمل في شركة يابانية – وتحقق تطلعها بدخول مبنى شركة يوميموطو – الشركة مثل للشركات اليابانية الحديثة التي تشمل أنشطتها كل أنواع التصدير والاستيراد، والمبنى رائع بأناقته ونظافته ونظامه.
اميلي نوتومب بلجيكية الجنسية، أتاحت لها سنوات إقامتها الطويلة في اليابان أن تجيد التحدث باليابانية، تصورت أنها ستجد نفسها في العمل داخل شركة يوميموطو، لكن ما واجهته منذ بداية عملها في الشركة ألغى تصورها أن إجادتها لليابانية ستعينها في عملها، أظهر رؤساؤها استنكارًا للغتها الجيدة: أنت لست يابانية، ونحن نقدمك لزبائننا بهذه الصفة.
أول ما واجهته في عملها الجديد، رئيستها المباشرة. استشعرت عداءها من اللحظة الأولى، كأن العداء – من وجهة نظر الآنسة موري – مسألة مفروغ منها.
وكانت المفاجأة التالية، حين لاحظ رئيسها السيد صايطو – في غضب – أنها قدمت القهوة بلغة يابانية سليمة، آمرك بألا تفهمي اليابانية بعد اليوم. وأعيتها محاولة إرضاء السيد صايطو بكتابة رسائل جيدة الإنشاء، كلما كتبت رسالة، بادر بتمزيقها، وطلب رسالة أخرى.
في وقت قصير، عرفت عادات رؤسائها – وكلهم كانوا رؤساء لها – ففي الثامنة والنصف صباحًا بالتحديد يحتسي السيد صايطو فنجان القهوة باللبن، ويأخذ قطعتي سكر في العاشرة صباحًا، بينما يشرب السيد ميزونو طاس كوكا كولا كل ساعة، وللسيد أوكادا شاي إنجليزي مع قليل من اللبن في الخامسة مساء، ولفوبوكي شاي أخضر في التاسعة صباحًا، وقهوة عند الزوال، وشاي أخضر في الثالثة عصرًا، وقهوة أخيرة في السابعة مساء.
كان قد مضى على بدء عملها في الشركة حوالى الشهر، وكان عقدها لمدة سنة، وأزمعت – حين بدت الأمور عكس ما تصورته – أن تقدم استقالتها، لكنها لم تقتنع بالفكرة، فليس فى المسألة ما يسيء إلى مشاعر الغربي، لكن الياباني ينظر إليها من منظور مغاير، يتصل بالشرف. عرفت أن استقالتها قبل انقضاء الفترة ستجلب لها نظرة إدانة في أعين اليابانيين، وانتقادًا من أهلها.
بادرت اميلي – لتؤكد حبها للعمل – بتوزيع الرسائل على الموظفين، وجدت في ذلك العمل بساطة وفائدة وإحساسًا إنسانيًا ومناسبًا للتأمل، وتمنت القيام به مدى الحياة. لكن السيد صايطو – ذلك الذي ضاقت به – ما لبث أن استدعاها لينبهها إلى أنها اقترفت جريمة في غاية الخطورة، حين مارست نقل الرسائل دون استشارة رؤسائها المباشرين، وجد ساعي بريد الشركة الأصلي نفسه بلا عمل ” الاستيلاء على عمل الغير عمل سيء”.
مارست اميلي عملًا آخر – اسـتأذنت هذه المرة – وهو ضبط تواريخ النتائج الموزعة في المكاتب، لكن السيد صايطو أشار إلى طريقتها في أداء العمل، وأنها تشتت الموظفين بحركاتها المسرحية.
لم تكن ملاحظات السيد صايطو لها طلبًا للدقة، بقدر ما كانت تعبيرًا عن شخصية ذات طبيعة مسيطرة، ولعلها طبيعة عدوانية، تذكرنا بحكاية التركي الذى وضع القلل على الرصيف، ودعا الناس للشرب، يمد أحدهم يده إلى قلة، فينهره التركى: لا تأخذ هذه.. خذ تلك، مجرد رغبة في تأكيد الذات، وإملاء السيطرة.
كانت نفسها الشاعرة الحساسة نقيضًا لشخصية السيد صايطو الذى يشغله معاقبتها، ولو على حساب تمزيق مئات الأوراق التى كانت – فى الأصل – أشجاراً مسكينة بريئة، وتذكرت قسوة اليابانيين فى التعامل مع أنفسهم، مثل الإقدام على الانتحار لفعلة قد لا تستحق الاعتذار!
أوكلت إليها الآنسة مورى أكثر من عمل، فلما تبينت عدم قدرتها على أداء عمل حقيقي، صحبتها إلى دورة المياه، وعهدت إليها بالإشراف عليها” بوجه واثق، أرتني في لهجة محترفة، الأشغال التي سوف أتولى القيام بها من تلك اللحظة، تغيير اللفيفة بقماش جاف نظيف، بعد استعمالها بالكامل في تنشيف الأيدي، إعادة تزويد المراحيض بالورق الصحى. لهذا الغرض عهدت لي بمفاتيح بالغة الأهمية لخلوة مهملات توضع فيها تلك الأشياء النفيسة بمعزل عن أطماع قد تكون خامرت أذهان المسئولين في شركة يوميموطو”. واطمأنت إيمي إلى أنها – بعد ذلك – لن تخشى الانحدار إلى مرتبة أدنى.
لكن الظروف السيئة طاردتها حتى في دورة المياه، الأشخاص أنفسهم الذين أتوا بها إلى ذلك المكان، هم الذين تواصلت انتقاداتهم لها. مع ذلك، فقد حاولت أن تجعل من عملها الجديد فرصة لمراجعة النفس، والتأمل، والتوصل إلى بعض الأمور التي كانت خافية عنها.
إذا حاولنا النظر إلى الشخصية اليابانية من خلال عينى اميلي توتومب، ففيما عدا الرئيس الأول لشركة يوميموطو، فإن بقية الشخصيات تعاني ما يمكن نسبته إلى العقد النفسية، وهو ما قد يعود إلى الطابع المحافظ في مجتمع اليابان، مجتمع حافل بالقيم والعادات والتقاليد والإيمان بالموروث، إلى حد اعتبار الإمبراطور – حتى هزيمة البلاد في الحرب العالمية الثانية – ابناً للآلهة.
الغريب – فى تقدير إميلى – أنهم يستاءون من قلة مراعاة الغير لتقاليدهم، لكنهم لا يستنكرون أبدًا إخلالهم بتقاليد الآخرين. التفوق اليابانى – في تقديرهم – من المستحيل إنكاره، مقابلًا لوضع الغربيين في دائرة الخيانة. وعلى سبيل المثال فإن فوبوكى تصف أخلاق الغربيين بأنها تتسم بالخسة، وأنهم يضعون غرورهم فوق مصالح الشركة، واتهمت الغربيين الذين يعملون في يوميموطو بأنهم يخربون حساباتها، حتى لو تحمل النتائج آخرون.
تعمم اميلى نظرتها إلى الشخصية اليابانية، فتجد أنها أقرب إلى التصلب، أو أنها متصلبة بالفعل. من هنا، فإن ترك الحرية للفرد يتصرف وفق رؤاه أمر نادر جدًا فى اليابان، ذلك ما تؤكده إميلي عبر الكثير من المواقف والأقوال. وعندما قادتها فوبوكي إلى دورة المياه، فإنها كانت تعرف أن تنظيف المراحيض ليس عملًا مشرفًا في نظر اليابان، وإن لم يفقد صاحبه ماء الوجه، عكس الحال مع الغرييين. وكما تقول إميلى، فإن الانتحار في اليابان عمل مشرف جدًا.
واليابانى – رغم إدمانه العمل – يرى أنه لا يعمل بما فيه الكفاية. الحرص على الوقت مهم للغاية فى حياة اليابانيين، حتى أن تضييع الوقت في انتظار المصعد يعد جريمة خطيرة من وجهة النظر اليابانية.
ينعكس حب اليابانيين للعمل على الصدمة النفسية التي تستغرقهم في إجازة العام الجديد، ثلاثة أيام من الراحة الشعائرية الإجبارية ” طوال ثلاثة أيام بلياليها، لا يسمح حتى بالطبخ، حيث يأكلون وجبات باردة معدة سلفًا، موضوعة فى علب لامعة، بديعة الصنع”.
أضافت إميلى إلى ملاحظاتها أن الأفراد يحرصون أن تكون لهم عاداتهم التي يلتزمون بها، ويلتزمون بعادات وتقاليد المجتمع، حتى احتساء الشاى، له موعده الذي لا يتقدم ولا يتأخر [ ربما قرأ أستاذنا نجيب محفوظ عن الحياة في اليابان، فالتزم بذلك الانضباط الغريب الذي كان سمة لحياته! ]، ويعتز اليابانيون بكل ما يتصل بشخصيتهم، حتى لغتهم يرفضون أن ينطقها أجنبي بمثل إجادتهم لها. واعتزاز الياباني ببلاده، وبنفسه، يبلغ حد رفض استقالة من يعتذر عن عدم العمل لديه قبل المدة التي تعاقدا عليها، ذلك ما عانته إميلي حين أرادت أن تقدم استقالتها، لكنها تذكرت نظرة الياباني إلى ذلك التصرف، وأنه ربما ينطوي على جريمة.
بالنسبة للمرأة، فإنه إذا كان كل جمال فاتن، فإن الجمال الياباني – من وجهة نظر الراوية – أشد فتنة، لأن ذلك البياض الزنبقي الناصع، وهاتين العينين الجميلتين، والأنف ذا الجناحين الفريدين، والشفاه المرسومة بدقة، والقسمات ذات الرقة المركبة، ذلك كله يجعل وجه اليابانية أشد الوجوه اكتمالًا، لكن هذا الجمال يواجه – دومًا – بالكثير من صور الإرغام والسحق والعقائد والمحظورات العبثية والخنق والتدمير والسادية والصمت المتوطن والإهانات، لذلك فإن بقاء اليابانية على قيد الحياة – كما ترى إميلي – يعد فعل مقاومة يتسم بشجاعة مترفعة، وجليلة في الوقت نفسه. تقول الراوية: ” إذا كان للمرء أن يعجب باليابانية – وهو حتمًا سيعجب بها – فلأنها لا تنتحر، يقع التآمر على مثلها العليا منذ نعومة أظفارها، حيث يسكبون الجص في دماغها : إذا بلغت الخامسة والعشرين ولم تتزوجي، فسيكون لك أسباب وجيهة كي تخجلي من نفسك. إذا ضحكت فلن تكوني متميزة. إذا تحدثت عن وجود شعرة على جسدك فأنت مدنسة. إذا قبّلك شاب على خدّك في الطريق العام فأنت فاجرة. إذا استحليت أكلك فأنت خنزيرة. إذا استطبت النوم فأنت بقرة. إلخ”.
أما شركة يوميموطو، فقد كانت مثلًا للتقدم التجاري الذي بلغته اليابان، فضلًا عن التقدم في مجالات التصنيع والزراعة وغيرها. إنها تشتري وتبيع كل ما على سطح الأرض، وميزانيتها تفوق خيال البشر. وقد وجدت إميلي في مبنى شركة يوميموطو مثلًاللفخامة والإفادة من التكنولوجيا، إلى حد أنها – وهى الأوروبية – تناست كل شيء، حين دخلت مبنى الشركة، عدا الانبهار بالفراغ والفرجة البلورية.
تبقى ملاحظة تثير التأمل: كيف تعرضت الراوية لتلك الإهانات المتوالية، التي أدت إلى انفلات أعصابها، والإقدام على القفز عارية وسط المكاتب، في مجتمع يعاني – على حد تعبيرها – مرض الرتابة، ويعرف ماذا يعني أن ينهار الإنسان، وهو التعبير الذى استخدمته إميلي نوتومب؟