الحقيقة التي يكاد يتفق عليها المؤرخون، أن حياة جمال الدين الأفغانى يلفها الغموض، حتى تلك الفترة التى قضاها فى القاهرة – 1871 : 187- والتى تعد أخصب فترات حياته، تعاني الظلام، وربما القتامة، في المعلومات، إلى حد الاختلاف في البيت الذي اختاره لسكناه: هل كان في خان الخليلي أو في حارة اليهود ؟ وحقيقة التنظيمات التي كونها ؟ – لم يكن الحزب الوطنى الحر حزبًا بالمعنى المفهوم – ولعل أول ما يطالعنا في التراجم المختلفة لحياة الأفغاني، أنها تكاد تخضع لرواية واحدة بأساليب مختلفة في كل المؤلفات التي تعرض لسيرته، وإن كانت رواية جرجي زيدان هي أميل تلك الروايات إلى التركيز، وإلى الإحاطة بالتفاصيل في الوقت نفسه: ” هو السيد محمد جمال الدين بن السيد صفتر، ولد في بيت شرف وعلم بقرية أسعد [ أسد ] أباد من قرى كنر من أعمال كابل ببلاد الأفغان سنة 1254 هـ ، 1838 م، ويتصل نسبه بالسيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويرتقي إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب. وآل هذا البيت عشيرة كبيرة تقيم في خطة كنر، ولها منزلة عليا في قلوب الأفغانيين لحرمة نسبها. وكانت تملك جزءًا من أرض الأفغان حتى سلب الملك منها دوست محمد خان جد الأمير عبد الرحمن، وأمر بنقل والد السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة كابل، وجمال الدين لا يزال في الثامنة من عمره، فعني والده بتربيته وتثقيفه، فتلقى مبادئ العلوم العربية والتاريخ وعلوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول وكلام وتصوف، والعلوم العقلية من منطق وحكمة عملية سياسية ومنزلية وتهذيبية وحكمة نظرية طبيعية وإلهية والعلوم الرياضية من حساب وهندسة وجبر وهيئة أفلاك ونظريات الطب والتشريح، وكانت ملامح النجابة والذكاء ظاهرة فيه منذ نعومة أظفاره ، فأتم هذا كله وهو فىي الثامنة عشرة من عمره “. وعرض زيدان لأسفار الأفغانى في الحجاز والهند ومصر وفرنسا وإنجلترا والأستانة وغيرها، وما أعلنه من آراء في أحوال العالم الإسلامى، اتسمت فى عمومها بالراديكالية، بداية من نقد سلطات الاحتلال، وانتهاء بنقد السلطات المحلية الحاكمة.ولعل هذه الرواية هي التى اعتمد عليها صلاح عبد الصبور في دراسته المتميزة ” قصة الضمير المصري الحديث بين الإسلام والعروبة والتغريب “. أما مذهب الرجل الدينى فهو – كما يقول الإمام محمد عبده – حنفى ” وهو وإن لم يكن فى عقيدته مقلدًا، لكنه لم يفارق السنة الصحيحة، مع ميل إلى مذهب السادة الصوفية رضىي الله عنهم، وله مثابرة شديدة على أداء الفرائض في مذهبه ، وعرف بذلك بين معاشريه في مصر أيام إقامته، ولا يأتى من الأعمال إلا ما يحل في مذهب إمامه، فهو أشد من رأيت في المحافظة على أصول مذهبه وفروعه. أما حميته الدينية فهي مما لا يساويه فيها أحد ، يكاد يلتهب غيرة على الدين وأهله “. هذه هى رواية تلميذه الإمام. وبديهى أن الرواية ليست اجتهادًا ، لكنها معلومات أمد بها الأستاذ تلميذه مباشرة، خلال رفقتهما التي امتدت أعوامًا طويلة ، فهي إذن أبعد الروايات عن الاجتهاد الشخصي . وذلك ما يشير إليه الشيخ مصطفى عبد الرازق من أن الأفغاني قال عن نفسه لتلميذه الإمام إنه ولد في أسعد أباد من أعمال كابول في بلاد الأفغان، من أسرة حنفية المذهب، تنتسب إلى الحسين بن على سنة 1838، وإنه قال – فى مناسبة أخرى – إن الأفغان ” أول أرض مس جسمى ترابها “. كان الرجل حريصًا على تأكيد أفغانيته، وأن نسبته إلى إيران إنما هى مؤامرة. قال إنه أفغانى الأصل والفرع، وأنه لا علاقة جنسية له بإيران ولا تابعية. وقال إن الشاه يشيع ذلك عنه بهدف استدعائه إلى إيران، ثم الانتقام منه والتنكيل به. وأضاف: وفى 1287 هجرية، إبان تولى صفوت باشا وزارة المعارف، عينه – أى الأفغاني -ـ عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، ارتكازاً إلى أفغانيته. وقال: فليسألوا الوزارة المشار إليها إن أحبوا!. وثمة مؤلف اسمه ميرزا لطف الله خان، قدم نفسه باعتباره ابن أخت للأفغاني . أورد معلومات عن نشأة الرجل: نسبه وأسرته وتعليمه، في كتاب بعنوان ” جمال الدين الأسد أبادي “، لكن المعلومات التي يضمها الكتاب تتباين تمامًا مع غالبية ما ذكره الأفغانى بنفسه عن تلك الظروف.
والواقع أن فارسية الأفغاني ليست وليدة اجتهادات معاصرة، فقد أصدر الإيراني محمد حسن خان الملقب باعتماد الدولة، في كتاب بعنوان ” المآثر والآثار ” ” أن جمال الدين من قرية أسد أباد من أعمال إيران . له مقام عال في العلوم العتيقة والجديدة. يفتخر به أهل إيران ولهم الحق, تعلّم العلوم الشرعية في مينة قزوين ومدينة طهران، وسافر إلى بلاد أفغانستان، ومنها إلى الممالك العثمانية ومصر”. وثمة رواية لعالم إيراني ، حاولت التوفيق بين تباين الاجتهادات في نشأة الأفغاني. قال إن والد جمال الدين من ولاية ” مازندان ” إحدى مقاطعات إيران. وكان ضابطًا في الجيش الإيراني، وأوفدته الحكومة الإيرانية في مهمة إلى بلاد الأفغان ، فطابت له الحياة هناك، وربما تزوج فتاة أفغانية، أنجب منها جمال الدين، أو لعله كان أنجب جمال الدين في إيران، ثم صحبه إلى وطنه الجديد. ويتحدث الشيخ رشيد رضا عن نطق الأفغاني بالعربية، فيقول إن جمال الدين بالرغم من طلاقته، لم يستطع التخلص من آثار نسبه الفارسى!. ويقول المستشرق أ . ج . براون إن جمال الدين أراد أن يعرف بأنه أفغاني ليسهل حشره في زمرة السنيين من المسلمين، وليتخلى عن الحماية الفارسية التي كان يشك في قيمتها. حتى السلطات العثمانية، أعلنت – فى أواخر أيامه، وبتأثير حرب ضارية بينه وبين أبي الهدى الصيادي- أن جمال الدين ليس من أحفاد الحسين، وأنه – كما تقول وثائق الدولة – ” مازنداني من أجلاف الشيعة”. وكتب الصيادي رسالة إلى الشيخ رشيد رضا صاحب المنار قال فيها:” إنى أرى جريدتك طافحة بشقائق المنافق جمال الدين الملفقة، وقد تدرجت به إلى ” الحسينية ” التي كان يزعمها زورًا، وقد ثبت في دوائر الدولة رسميًا أنه ” مازنداني” من أجلاف الشيعة، وهو مارق من الدين كما مرق السهم من الرمية”. وإذا كان عبد العليم القباني يشير إلى أن باحثًا- هو عبد الباسط محمد عوض – اتصل بالسفارتين الأفغانية والإيرانية للتحقق رسميًا من أصل الأفغانى الإقليمى، فكان ردهما أنه ليس لدى أي منهما دليل يثبت تبعية الأفغاني لأي من الدولتين، فإن معظم المؤرخين الذين عرضوا لسيرة جمال الدين الأفغاني نقلوا رواية الإمام، التي نقلها عن الأفغاني نفسه.
مع ذلك، فإن الإمام يشير في فاتحة تعريبه لرسالة “ الرد على الدهريين” التى كتبها الأفغانى:”يحملنى على ذكر شيء من سيرة هذا الرجل الفاضل ما رأيناه من تخالف الناس في أمره، وتباعد ما بينهم في معرفة حاله، وتباين صوره في مخيلات اللاقفين لخبره، حتى كأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله”. ورأى الإمام أن الأفغانى-ـ وإن كان في الحقيقة فارسيًا- فقد انتسب إلى الأفغان لأمرين: أن يكون من السهل عليه الظهور بمظهر السني لا الشيعى. أن يستطيع الخلاص من رقابة الحكومة الإيرانية لرعاياها فى الخارج. ثم تأكدت نسبة السيد – من الناحية الرسمية – إلى عائلة بالذات، وإلى بلد بالتحديد، حين أشرف ملك الأفغان محمد ظاهر شاه بنفسه على إعداد الضريح الذي نقلت إليه رفات جمال الدين الأفغاني. وكان الملك في مقدمة المستقبلين لرفات الشيخ، ووضع رئيس الوزراء التابوت على كتفه، ينقله من السيارة إلى أرض الحديقة المطلة على نهر كابول، اعترافاً مؤكداً أن جمال الدين هو ابن لذلك البلد.
القول بأن اعتراف جمال الدين نفسه أنه أفغاني المولد والجنسية يقطع على المتشككين طريقهم” فهو أدرى بحسبه ونسبه”، هذا القول لا يخلو من طرافة، فضلًا عن أنه يحتاج إلى مراجعة شديدة.
لقد قدم الأفغانى نفسه – فى البداية – إلى مريديه، ونقل المريدون ما رواه لهم الأفغانىـ ونتذكر قول الباحثة الأمريكية نيكي ر . كيدى الأعوام السبعة والعشرين الأولى في حياة الأفغاني كان غالبيتها من رواية الأفغاني وحدهـ وقرأنا عن حياة الأفغاني منذ الطفولة إلى الكهولة في كتابات الإمام ومحمد رشيد رضا وعبد القادر المغربي ومحمد المخزومي وغيرهم. وبالطبع، فلم تكن الروايات – فى مجموعها – سوى ترديد لما رواه الأفغاني نفسه. حتى لقبه الذي اختاره لنفسه، أو اختاره له آباؤه، وهو السيد جمال الدين الأفغانى الحسينى، كالنسب الذي اختاره أحمد عرابي لنفسه .
القيمة الأهم فب كتاب كيدى أنه ليس مناقشة لاجتهادات سابقة، بمعنى أن الباحثة لم تغلق دائرة بحثها على الكتب والدراسات التي عرضت من قبل لسيرة الأفغاني وشخصيته وأفكاره، لكنها اعتمدت – في الدرجة الأولى – على الوثائق الصحيحة في المكتبات العامة والخاصة والمتاحف، في إيران وأفغانستان وروسيا وبريطانيا، وفي كل البلاد التي ذهب إليها الأفغاني بشخصه، أو بدعوته، ثم قدمت – في النهاية – كتابها الذي يصعب رفض مناقشته!
تشير الباحثة – ابتداء – إلى أن كل المعلومات التي ترددت عن نسبة جمال الدين إلى أفغانستان مصدرها جمال الدين نفسه، وأنه لا توجد أية وثائق مصدرها أفغانستان سواء كانت متعلقة بالأسرة أو الأقارب أو أي شيء آخر، بينما يوجد الكثير الذي ينسبه الأفغاني إلى إيران” يبدو أن السبب في أن جمال الدين الذي قدم نفسه كأفغاني وليس كإيراني، هو رغبته في أن يقدم نفسه للعالم الإسلامى كسني وليس كشيعي”. ويلاحظ أن اسم خادم جمال الدين الذي لازمه مدة طويلة – وهو أبو تراب – اسم شيعي إيراني. والغريب أنه فى فترة حياة جمال الدين نفسه كان الكثير من أتباعه يرون أنه من أصل إيرانى، وقد عثر على كثير من الوثائق، من بينها مراسلات بين جمال الدين وأسرته فى إيران” المصادر الموثوق بها عن السنوات السبع والعشرين الأولى من حياة السيد جمال الدين قليلة للغاية. ” لم يكن الأفغانى أفغانيًا، كما يدّعى، بل إيرانيًا، ولم يكن سنيًا، بل شيعيًا” سواء كان الأفغاني قد ولد – كما يقول هو – في أفغانستان، أو – كما تقول الوقائع التاريخية – في إيران، فإنه قد أتى من منطقة تموج بالروح الإسلامية، وهو لم يكن إيرانيًا فحسب، بل كان أيضًا من تلك الأقلية المتعصبة، الأرثوذكسية، الشيعة.
وعلى الرغم من أن كيدي تعتمد في كتابها على الوثائق والمصادر الخطية، فإنه من الخطأ – فى تقديرى – بل من الخطر، أن يلغي ذلك الجهد العلمي جهودًا سابقة، وإن اختلفت معه في منهجيتها وأساليب بحثها.
إن القيمة الأولى التي يجدر بنا أن نخرج بها من كل ما قدمته كيدي، أن الاكتفاء بمصادر السلف في رواية التاريخ، دون جهد حقيقي في التحليل والنقاش والمقارنة، هو إلغاء حقيقي لمعنى الدراسة التاريخية، وحتى عرض الوثائق وتحليلها، باعتبار ذلك عرضاً وتحليلًا للحقيقة بصورة موضوعية، ربما يفضى بنا إلى نقيض ما نطلب.
المثل الذى يحضرني الآن ما فعله عبد الخالق لاشين ومصطفى النحاس في مذكرات سعد زغلول. كان المصدر الذي اعتمد عليه الباحثان هو مذكرات زعيم ثورة 1919، لكن المنهج في كل من الدراستين و” التخريجات” التي كان الباحث يحرص على إبرازها.. ذلك كله جعل كل دراسة مقابلة للأخرى، ومناقضة لها. إن الدراسة التاريخية يجب ألا تجاوز طلب الحقيقة، وحتى إصدار الأحكام على الحقائق المؤكدة يجب أن يراعى ظروفًا موضوعية شديدة التعقيد.
وقد أفاد لويس عوض من اجتهادات الباحثة الأمريكية، في قوله إن لقب الحسيني يوحي بجذور شيعية عميقة، لا تتمشي مع الدولة العقلانية، بل ولا تتمشى مع العقيدة السنية، وإنما تذكرنا بباطنية الطرق الصوفية. لم يكن يذكر اسمه مقرونًا باسم أبيه وجده، وإنما يكتفي بنسبه إلى الحسين. لكنه – في رواية عبد المنعم شميس – جمال الدين بن صفدر الذي يمتد نسبه إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويرتقي إلى الحسين بن علي بن أبي طالب. وكان يتجول بعواصم العالم كرجل بلا وطن، وكان ذا شخصية مغناطيسية وأوشاج مغناطيسية. حتى نشأت حوله أسطورة دامت إلى زمننا الحالي.