يعد لوكاتش الرواية ملحمة الطبقة الوسطى فى البحث عن هوية لها. وعلى الرغم من القول بأنه حتى أواسط الثلاثينيات ” لم يكن لفن القصة على وجه عام شأن يذكر فى المجتمع الأدبى المصرى إذ ذاك. وكان عاشقوه فى آخر الصف “، وعلى حد تعبير نجيب محفوظ فإن ” الجانب المحترم فى الحياة الأدبية كان هو المقال، أما القصة فغير محترمة “، على الرغم من ذلك، فإن كاتبًا في ثلاقينيات القرن الماضي طرح السؤال: ألم تر تلك القصص المكدسة فى واجهات المكتبات، وعلى أرصفة الشوارع ؟.. ألا تعلم أن كل من هب ودب يكتب اليوم القصة ” ؟!.
ينظر شوقى في رواية”الشوارع الخلفية” إلى درية وهى تصفف شعرها فى المرآة، وتسكب قطرات من زجاجة عطر على مفرقه، ويتساءل: ما اسم هذا العطر يا ترى؟ أليست هذه التى تقف أمامك الآن يا شوقى هى نفسها ريرى بطلة قصة محمود كامل الأخيرة .. لكن الأخرى تسكن فى الروضة، وهى تلميذة فى ” المير دى دييه “. لايهم!.. والأخرى بنت ضابط كبير فى المعاش. آه يا عم شكرى !. وبطلة قصة محمود كامل طويلة سمراء مكحولة العينين، فى نهديها كبرياء وشموخ، وبعينيها حزن جليل، كأميرة هندية. درية أيضًا تملك نفس الأشياء ، تملك من الجلال والفتنة والهدوء الحزين ما لا تملكه كل الأميرات الهنديات ” إلخ.
صدر لمحمود كامل – قبل أن يتجاوز الثلاثين – سبع مجموعات قصصية، ضمت أكثر من مائة قصة، بالإضافة إلى مسرحيتين. ويتبدى تأثير مجلة ” الجامعة “،ـ وقصص محمود كامل بخاصة،ـ على الشباب المصرى آنذاك، فى قول عبد اللطيف لعبد العزيز (الشوارع الخلفية): اسمع يا عبد العزيز، عندك مجلة الجامعة. يا لا اقرا لنا بقى قصة محمود كامل بتاع الأسبوع ده “. ويقرأ عبد العزيز قصة محمود كامل فى جو مشحون بالصمت والتطلع.
كانت قراءة قصص محمود كامل تقليدًا أسبوعيًا عند أفراد أسرة الشوارع الخلفية: ” الجلسة المعتادة الحلوة بعد غداء كل خميس على سرير عبد العزيز، يقرأ لهما قصة محمود كامل في جو مشحون بالصمت والتطلع، دائمًا يوم الخميس، وهو اليوم الذى خصصه أبوهم ليستريحوا فيه من المذاكرة ، وأصبح هذا جزءًا من تقاليدهم”.
أصدر محمود كامل مجلتهالأسبوعية للقصة” الجامعة “، ومجلة ” الـ 10 قصص ” التى أصبح اسمها ” الـ 20 قصة “، ثم اندمجت فى مجلة ” الجامعة “. ثم أصبحت “الجامعة” مدرسة، أساتذتها، وتلامذتها فى آن: إبراهيم المصرى ومحمد أمين حسونة ومعاوية نور ونزيه سعد وإبراهيم ناجى ومحمود عزت موسى وحسن صبحى. وكتب إسماعيل أدهم: ” نالت قصص محمود كامل من الذيوع والانتشار، ما لم تنله قصص أي أديب آخر من أدباء العربية المعاصرين في مصر. والحق أن محمود كامل لم ينل زعامة مدرسة قصصية في الأدب المصرى اعتباطًا، فإنتاجه الكبير، وما يتسم به هذا الإنتاج من السمات الفنية هما اللذان مهدا له سبيل هذه الزعامة”.
أصدر محمود كامل مجموعته الأولى “المتمردون” ، وتلاها بمجموعته الثانية “فى البيت والشارع” فى مارس 1933، وفى 1934 أصدر مجموعة “8 يوليو” ، وتضم ثمانى قصص. ثم صدرت ” حياة الظلام ” و” بائع الأحلام ” [ صدر لإحسان عبد القدوس ـ فيما بعد ـ مجموعة باسم ” بائع الحب ” ] و” أول يناير ” و” المجنونة ” و” الربيع الآثم ” و”زوبعة تحت جمجمة ” و” عيون معصوبة ” و” أنت وأنا ” و” حطام امرأة ” و” فتيات منسيات ” و” القافلة الضالة ” و” الهاربون من الماضى ” و” آبار فى الصحراء ” و” اللاعبات بالنار “. ولفتت قصصه الأنظار بصورة واضحة، وسمى موباسان مصر، وأصبح له قراء ومريدون يحاولون محاكاة قصصه. بلغ فى الأدب المصرى منزلة الرائد ذي المكانة التي تُفرض على نقاد الأدب. وكما يقول سيد النساج فإن محمود كامل يقف ” مؤثرًا في جيل كامل من أبناء هذه المرحلة، فيحاكيه في كل شئ، ويكاد في قصصه لا يخرج عن الدائرة التى حصر محمود كامل نفسه في أبعادها وزواياها المحددة “.
يحدد محمود كامل الطبقة التي تنبض بها قصصه بأن ” كل الجهود التي بذلت حتى اليوم في كتابة القصة، انصرف معظمها إما إلى تصوير شخصيات ريفية بحتة تعيش في جو ريفي بحت، أو شخصيات أبناء البلد ونساء الحوارى والأزقة. وهذه الجهود لها قدرها الأدبي وقيمتها الفنية، ولكن أردت بكتابة حياة الظلام أن أعطى صورة صادقة عن طبقة أخرى، لا هى بالغنية ولا بالفقيرة، وقد تكون أدنى إلى الفقر منها إلى الغنى، وأن أجعل بطل القصة يتخضرم بين عهدي الدراسة العالية والحياة الحرة، وهي فترة دقيقة غاية الدقة من فترات الحياة التي يجتازها الجيل الجديد من شبابنا ، من حقها أن تسجل”. وينقل الفنان عن محرر الأكتوالتيه Actualtes قوله إن هناك طبقة من الخاصة قد تكونت تدريجيًا منذ نحو ثلاثين عامًا، تستحق التنويه. هذه الطبقة هي الطبقة الوسطى. وقد عني الفنان بتصوير الجانب العاطفي من حياة هذه الطبقة قدم -ـ كما صدر مؤلفاته- ” لوناً جديداً غير مسبوق بصفة عامة “. وثمة رأى أن الكتاب الذين سبقوا محمود كامل كانوا يخشون التعرض للحب، لأنهم اعتقدوا أن قصص الحب توافق الغرب، حيث يجوز أن يكون الحب موضوعًا أدبيًا، لكنه صور حياة الطبقة الوسطى التي تعيش في تجاوب نسبي مع العادات الغريبة، وتأثر بها. ثمة مشكلات الطلاق، الخيانة الزوجية، فراق الحبيبين، موقف الآباء من الحب، رغبتهم في تزويج بناتهم من شبان أغنياء، فضلًا عن تناول المجتمع شبه الإقطاعي الذي يتحول– تاريخيًا – إلى مجتمع صناعي ، وما تبع ذلك من انتشار المبادئ الديمقراطية ، وخروج المرأة للعمل والدراسة. وكذلك اختفاء الفتاة المحجبة، وظهور الفتاة المتحررة.
تهبنا قصص محمود كامل” أولئك الفتيات اللائي تتراوح أعمارهن بين الثامنة عشرة والثانية أو الخامسة والعشرين، والفتيات اللائي ” يقضين النهار جالسات على” تختة ” مدرسة، أو واقفات خلف واجهة محل تجارى، أو متنقلات بين أقسام مخزن من مخازن الملابس، حتى تسأم أرواحهن الشابة وتتسرب إليها كآبة مضنية، فتظمأ تلك الأرواح إلى غذاء من العاطفة لا يجدنها فى جو الدراسة أو العمل.. إن النفوس والأرواح الشابة تروى ظمأها فى ظلام قاعات السينما”. وثمة الحبيب الذى يصفح عن ماضى حبيبته: “إن ذلك الماضى تملكه هى دون سواها ، ومن العنت أن أحاسبها عليه”.
قصص محمود كامل ـ كما يقول محرر ” المقتطف ” ـ تمثل الجو المصري في صفات أشخاصها وعبارات حوارها، وإن كانت حوادث معظمها مما يصح أن يقع فى أية عاصمة من العواصم، وكتبت ” الجورنال ديجيبت “: ” إذا كانت زينب لمحمد حسين هيكل تعد خير صورة لحياة الريف المصري. وإذا كانت قصص محمود تيمور تصف لنا حياة الأغوات والشراكسة، وإذا كان توفيق الحكيم قد استطاع أن يصف لنا حياة موظفي الأرياف بقدرة ونبوغ، وإذا كان محمود طاهر لاشين قد رسم لنا على الأخص الأوساط العمالية في المدن الكبيرة، فإن محمود كامل يعد في مقدمة من استطاعوا رسم مصر الحديثة رسمًا صادقًا واقعيا خاليًا من كل تكلف”.
رأي لا يخلو من تعميم، لكنه يشير إلى مرحلة من تاريخنا القصصي، كان محمود كامل من أهم روادها.