يحيرني محمد العزبي. هو أرستقراطي الظاهر، ليس بالمعني الذي قد يخطر في بالك، وإنما بمعنى القامة الممشوقة، والعينين الملونتين ( يشكو الآن عصيانهما أوامره بالرؤية الصحيحة!)، يصف نفسه بأنه “صحفي سياسة، غاوي سياحة”، ومن أهم كتبه “مسافر على كف عفريت”. استطاع – من خلال عمله الصحفي – أن يأخذنا إلى بلاد الله، خلق الله: المواني والمطارات والعواصم المتقدمة والقرى النائية، الفقيرة، والصحارى والجبال والغابات والشواطئ والجزر واختلاف المعتقدات والتقاليد والعادت وغرائب الكائنات وعجائبها.
يشاهد، ويتأمل، ويجري الحوارات ( مع كثرة لقاءاته بزعماء تاريخيين، فإني أعتبر لقاءه الجنرال جياب، القائد العسكري للفيتناميين، خبطة صحفية متفردة ) ويكتشف ما لا يتاح لأمثالنا من قراريي الأرض، أي المرتبطين بالقرار – والوصف لأستاذنا العقاد – الذين تقتصر زياراتهم لبلد أو آخر على أيام قليلة، أو قد تكون رحلة عمل تمتد أعوامًا محملة بمشاعر الغربة والحنين والفقد.
محمد العزبي يتجاوز ذلك كله. يحرص أن يشيل الهم، ينشغل بأحوال البسطاء والغلابة والساعين إلى رزق يوم بيوم: تجريف الأرض الزراعية، وتفاقم عشوائية البناء، وسرقة الآثار، وإهمال العلاج في المستشفيات، والأغنيات الرديئة، وفوضى التعليم، والإيمان بالخرافات، وأحوال متقدمي السن وأصحاب المعاشات، وامتداد الغلاء إلى مدافن الموتى، إلخ.
الكتاب عن الصحافة. أكاد أقول للصحافة، فغالبية صفحاته عن قضايا تهم أبناء السلطة الرابعة، وإن أكد الكاتب أن الصفة – للعديد من الأسباب – لم تعد موجودة. يشغي بأسماء صحفيين كبار وشباب، عرفهم العزبي عن قرب، صادقهم، أو رعى أولى خطواتهم، يمثلون فسيفساء المشهد الصحفي عبر عشرات السنين. تتخلل السطور خفايا وأسرار، أبطالها عبد الناصر والسادات ونجيب محفوظ وهيكل وبهاء الدين وأم كلثوم وعلى حمدي الجمال وأسمهان ومحمد شعير وعشرات غيرهم، ربما تلحظ خطورة الواقعة بعد أن تعبرها لبساطة الحكي وعفويته.
ثمة – على سبيل المثال – قانون إحالة الصحفي إلى المعاش عند بلوغه سن الستين. العزبي يشفق على الصحفي المخضرم ( هل هذا هو التعبيرالمناسب؟ ) من الإحالة إلى المعاش، ويشفق – في الوقت نفسه – على الأجيال الطالعة من الشباب الذين يطمحون إلى الصدارة. هيكل صار رئيسًا لتحرير آخر ساعة، ثم الأهرام، قبل أن يبلغ الثلاثين، أحمد بهاء الدين ترأس صباح الخير في الخامسة والعشرين، صلاح جاهين خلفه – فى العمر نفسه – في رئاسة التحرير، وثمة المشاهد الأخيرة لعدد من رموز حياتنا المصرية: هيكل وبهاء الدين ومحمد فوزي وسعاد حسني وبليغ حمدي وتحية كاريوكا وعبد السلام النابلسي.
وتناول العزبي مأساة يونيو 1967 من جوانبها المختلفة، بطولة المقاتل المصري في مواجهة الضربة الغادرة ( أذكر كلمات يوسف إدريس عن الصفعة التي لا يتاح للمرء أن يردها ) التشدق بالشعارات والإهمال والأوامر العابثة، وما تلا ذلك من محاكمات كان يجب أن يخضع لها الجميع. وتطالعنا أسماء أعضاء تنظيم عبد الناصر الطليعي من الإعلاميين ( المعنى العلمي للإعلام يرفض تقسيم الإعلام إلى إعلام وصحافة! ) وهو التنظيم الذي ظل سرًا مستغلقًا، لا نعرف من ضموا إليه، ولا لماذا، ولا المهام التي عهدت بها القيادة السياسية إليهم.حتى وفاة عبد الناصر، وما إذا كان قد مات بالمرض، أم بسم دس في قهوته، أو أنه قضى بتأثير هدية تفاح من بيروت، واستعاد العزبي حكاية طبيب العلاج الطبيعي الذي اتهم بأنه وضع السم البطئ في كريم تدليك ساق عبد اناصر.
والأمثلة كثيرة.
لعلنا نتبين المواءمة بين المعنيين في أن القانون الذي حدد الستين سنًا للمعاش، أتاح لمن جاوزوا السن صفة الكاتب – إن كان كذلك بالفعل – فهو يكتب المقالات والدراسات، على أن يتولى فنيات الصحافة وموادها الخبرية أجيال لم تبلغ السن. أشير إلى قول العزبي: لا أدافع عن مهنتي، فأنا أول من يوجه اللوم، ولا أكابر تبريرًا لبعض ما يكتب أو يقال، كما أنني لا أباهي بأيام زمان، فلكل عصر أوان.
بالمناسبة، تحدث العزبي عن الصلة بين نجيب محفوظ والناشر عبد الحميد السحار. ولم يكن عبد الحميد – في الحقيقة – ناشرًا، إنما ظل – حتى أحيل إلى المعاش – موظفًا حكوميًا، وأديبًا له مكانته. وكانت صلته الوحيدة، الطارئة، بالنشر عندما تبرعت له زوجته بمصاغها ليستعين بقيمته شقيقه – الناشر – سعيد السحار في إنشاء مشروع لجنة النشر للجامعيين الذى احتضن إبداعات جيل الأربعينيات. وأذكر أن مؤلف أغنية عبد الحليم حافظ” على حسب وداد جلبي يا بوي” هو الزميل الصحفي الراحل صلاح أبو سالم وليس عبد الرحمن الأبنودي.وبالطبع فإن علاء عبد الهادي رئيس تحرير ” كتاب اليوم” ليس علاء عبد الهادي رئيس اتحاد الكتاب.
***
هل يدخل الصحفيون الجنة؟
يطرح محمد العزبي السؤال عنوانًا لكتابه. علم ذلك – بالطبع – عند الله، لكن دنيا البشر، حياتهم، تحتاج إلى مراجعة، وتأمل. يتحدث عن لوم الكثيرين على بعض ما يكتبه، بدعوى أنه ليس من حق الكاتب أن يدخل الاكتئاب على قرائه، فالناس لديهم ما يكفيهم، ويتساءل: لماذا نذهب بعيدًا بحثًا عن الفرفشة، وعندنا برنامج، بل برامج طويلة، كلها رقص في رقص، تشارك فيها لولبيات من كل بلاد الدنيا، وعش حياتك؟!
يضيف السؤال: هل يعتزل – الكتابة طبعًا – ويترقب النهاية، أو يشغل المتبقي من حياته بما يضيف إلى الوجدان المصري؟
على الرغم من كلماته عن طشاش العين، والتوكأ على عصا، وتغير الدنيا، فإن ما نأمله أن يواصل الكتابة، صديقًا – حسب قوله – للرومانسية وحب الجمال!