قبل أن يبدأ التليفزيون تقديم فوازيره وبرامجه المسلية ومسلسلاته، كان صوت مؤذن جامع أبو العباس يعلو – فى الأيام العشرة الأخيرة من رمضان – بالتواحيش، وهي غير التواشيح. مفرداتها التأكيد على الإحساس بالوحشة في انقضاء أيام الشهر الفضيل: لا أوحش الله منك يا رمضان.. لا أوحش الله منك يا شهر الصيام. ثم ألفنا – فيما بعد – أغنية شريفة فاضل الوداعية: هل البدر بدري.. والأيام بتجري.. والله لسّه بدري.. يا شهر الصيام!
ولأن العفاريت تظل مقيّدة فى رمضان، فإن أهل بحري يعدّون لاستقباله ، ويستعدون ـ فى الوقت نفسه ـ لخروج العفاريت من قماقمها، وأنها تغادر القماقم عقب صلاة المغرب، فى اليوم الأخير من رمضان، فتضل طريقها إلى أماكن ربما لم تدخل إليها من قبل.
من هنا يتبدّى حرص العامة على درء الخطر المتوقع برش الملح فى أركان الدور، وفى الحجرات، فى حين يجلس الأطفال أمام البيوت يضربون آنية نحاسية بها بعض الملح. فإذا اقترب العفريت، توهم أن هذه الأصوات النحاسية هى القماقم التى سجن فيها، فيبتعد عن البيت حتى لا يسجن مرة أخرى.
يعد الناس أنفسهم لما قبل عيد الفطر، وللعيد نفسه. تنشط حركتهم بين البيوت والأفران، وكعك العيد على الرءوس، يقبلون على شراء المكسرات من شارع اسمه ” النقلية “، يفترش ما يسمى بسوق العيد مساحات في الأرض الخلاء والساحات، مثل ميدان المساجد، والساحة المقابلة لجامع على تمراز، ومواضع أخرى في الأنفوشي ورأس التين.
يضيف إلى بهجة الليالي مولد المرسي أبو العباس الذي يأتي موعده في نهايات رمضان. الأعلام والبيارق واللافتات وخيام الصوفية وحلقات الذكر والتواشيح والإنشاد الديني ورواية السيرة النبوية وسير الصالحين، والجلوة التي تطوف شوارع المدينة في آخر أيام المولد، تسبقها الشارات والأعلام والدراويش الذين يلجأون إلى أفعال الخوارق، تأكيدًا لمعنى المحو والفناء.
أذكر – كالطيف – ليلة إعداد كعك العيد. كانت أمي بصحتها، بمعنى أني ربما كنت في الخامسة أو السادسة من العمر. كانت تشرف بنفسها على إعداد الصواني، تحملها معاونتها “دهب” إلى فرن التمرازية القريب. ثمة نداءات وملاحظات وأنوار عالية، وباب الشقة مفتوح لتسهيل الحركة.
تظل المدينة – والأحياء الشعبية بخاصة – ساهرة ليلة العيد إلى موعد الصلاة. يدس الأطفال ثيابهم الجديدة تحت الوسادات، أو يضعونها إلى جانبهم على الأسرّة، حتى تعلو التكبيرات. يحرصون فى ذهابهم إلى الصلاة على ارتداء الثياب الجديدة، والحصول على العيدية من كبار الأسرة: الجد والجدة والأب والأم والأعمال والأخوال. يحاكون الكبار في أدائهم الصلاة، ينتظرون – كما ينتظر الكبار – حتى ينتهى إمام الجامع من الخطبة.
تحل بداية الاحتفال بالعيد – عند الأطفال – حين يتركون آباءهم، ويتجهون إلى ميدان سوق العيد، على ناصيته سيارات أجرة، مقابل ركوبها خمسة مليمات ( لا يعرفها جيل الأطفال الحالى ). تستوعب السيارة ما لا سبيل إلى حصره. تتداخل الأجساد والأيدى والأقدام بما لا يكاد يتيح فرصة لالتقاط الأنفاس، ولا رؤية أى شىء، لكن سعادة المغامرة تلف الجميع.
تنطلق السيارة فى شوارع غير مرئية، انعدام الرؤية لا يتيح التعرف إلى ما يمكن رؤيته. يشعر الأطفال من رائحة البحر أنهم يسيرون بالقرب منه. إذا قال السائق: وصلنا السراى، عرفوا أنه قد وصل إلى نهاية النزهة أمام قصر رأس التين. يبدأ رحلة العودة دون أن يغادر الأطفال أماكنهم. مجرد إعادة الترتيب ستفضى إلى نتائج سلبية، فى مقدمتها أن البعض لن يعثر على الموضع الذي كان يشغله داخل السيارة.
يهمل السائق صراخ المعاناة من كتمة النفس. يواصل السير حتى يصل إلى نقطة البداية. يندلق الأطفال من السيارة ( هذا هو التعبير الأدق ! ) إلى أرض الطريق، لا يدرون كيف احتوتهم هذه العلبة الحديدية!
ما يكاد السائق يعلن عن بداية الرحلة التالية، حتى ينسى الجميع معاناتهم، يتسابقون إلى دفع المليمات الخمسة، ويندفعون داخل السيارة، تنحشر الأجساد والأيدى والأقدام، تأهبًا لرحلة تتزاوج فيها اللذة والألم.
فرض اختفاء الساحات والأراضي الخلاء والزحام غياب كل هذه المظاهر التي حدثتك عنها. نحن نحتفظ بها فى نفوسنا، وإن صحبنا أبناءنا إلى المتاح من الحدائق العامة، بالإضافة إلى الفسحة الأجمل على شاطئ الكورنيش .