كنا نلتقي في صالة ” المساء”، في مبناها القديم بشارع زكريا أحمد.
في الرابعة عصرًا، يطالعني الرجل ذو البنية الممتلئة، والبشرة السمراء، والشعر الأبيض المهوش. يلقى تحية سريعة، ويمضي ناحية مكاتب سكرتارية التحرير، في منتصف الصالة، ويجلس.
عدا عم فكري الساعي في جلسته لصق الباب، فإن صالة” المساء” كانت تخلو من المحررين، يبدو الوقت مناسبًا للعمل. أراجع، أكتب، أغالب الإشفاق وأنا أدفع بأوراق أنهيتها إلى عم فكري، ينزل بها من صالة التحرير في الطابق الثالث إلى المطبعة في الطابق الأرضي، الطابق الواحد يساوي اثنين من بيوت الزمن الحالي.
بتوالي الأيام، تجاوزنا التحية، وردها، إلى ملاحظات عابرة، وقال لي أستاذي الكاتب الصحفي عاشور عليش، بعد أن صافح الرجل بحرارة، وأنهى عملًا سريعًا:
– الأستاذ عبد السلام الشريف كنز، لا تفلته!
اقتحم الشريف مساحة الفهم عندي: الأوراق التي يفرغ لها ما يقرب من الساعتين، كل يوم، على مدى أسبوع، هي مواد مجلة ” المجلة” التي كان يحيى حقي يرأس تحريرها، وقدم – عبر صفحاتها – أهم الأصوات المبدعة. أيقنت – عبر الأسئلة والأجوبة – أن عبد السلام الشريف يفوق حتى معنى الكنز كما تصورته في عبارة عاشور عليش. إنه بحر لا آفاق له من المعرفة والخبرات والذكريات، لابد أن أفيد منه كل يوم، مثلما أراد الشخصية الحكائية قاسم، وليس شقيقه علي بابا الذي أزمع الاكتفاء بالقليل من محتويات الكنز!
سأقتصر على مثل أذكره جيدًا..
العادة – في تأريخنا لدور المرأة في بدايات السينما المصرية – أن نشير إلى الفنانة عزيزة أمير، ومبادرتها إلى إنتاج أول الأفلام ” ليلى”، علاوة على البطولة والإخراج. وهو تأريخ يحتاج إلى مراجعة، فإذا كانت البدايات السينمائية تدين لعزيزة أمير، فإنها لابد أن تتوقف أمام إسهامات أخرى لسواها من الفنانات.
أدت آسيا داغر دورًا ثانويًا في فيلم عزيزة أمير ” ليلى”، لكنها كانت قد أنتجت – قبل أن تأتي من بيروت إلى القاهرة – فيلم ” تحت ظلال الأرز”. ثم أنتجت في 1927 فيلم “غادة الصحراء” الذي أدركتمن خلال أدائها المتكلف أن الإنتاج أجدر بها. وهو ما استطاعته – بالفعل – في رد قلبي والناصر صلاح الدين ويوميات نائب في الأرياف.
وثمة بهيجة حافظ التي تنتمي إلى أسرة أرستقراطية ( أجاد صلاح أبو سيف تقديمها بالأداء الطبيعي في فيلم” القاهرة 30″ المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ” القاهرة الجديدة”). كان فيلم “زينب” (1930 ) الصامت عن قصة محمد حسين هيكل، وإخراج محمد كريم، أول صلتها بالسينما، ثم عملت بالتأليف السردي والموسيقي والسيناريو السينمائي والإنتاج وتصميم الأزياء، مجموعة مواهب حاولت توظيفها في فيلم ” أولاد الذوات”، لكنها تركت الفيلم عقب خلاف مع الفنان يوسف وهبي الذي أدى دور البطولة أمامها، ثم أنتجت فيلم ” الضحايا”، ومن بعده” ليلى بنت الصحراء”، وحاولت تعويض فشلها في فيلم ثالث هو” زهرة السوق”، لكنه عانى فشلًا مماثلًا، وأمضت وقتها – بعد ذلك – في التأليف الموسيقي، وتنظيم الصالونات الثقافية.
وبدأت عزيزة أمير في إنتاج فيلم” نداء الله” سنة 1926، ثم أوقفته خلافات مع المدير الفني وداد عرفي، واستبدلت به عزيزة استيفانروستي – قبل أن يصبح قاسمًا مشتركًا في الكثير من الأفلام – لكن التجربة فشلت، مما حفز الصحفي أحمد جلال إلى إعادة كتابة الفيلم باسم “ليلى”، واعتبر – في عرضه الأول – أول فيلم مصري صامت.
عبد السلام الشريف نسب إلى أمينة محمد ريادة سينمائية غائبة. قدمت من طنطا – مع ابنة أختها أمينة رزق – إلى القاهرة، بحثًا عن موضع في الحياة المسرحية. بدأتا راقصتين في مسارح عماد الدين، برودواي مصر آنذاك، ثم أقدمت أمينة محمد – كما روى لي الشريف – على تكوين شركة إنتاج سينمائي في عمارة ” ستيرنج” بوسط البلد، باسم” أمينة فيلم”، وبدأت في إعداد أول أفلامها” تيتا وونج”، الذي بلغ مجموع ميزانيته 17 جنيهًا.
بالإضافة إلى الاستديو في سطح العمارة، فقد استكمل التصوير في استديو مصر، واستديو كاتساروس. وصورت المشاهد الخارجية في الحديقة اليابانية بحلوان، ومنازل عدد من الدبلوماسيين الصينيين بالقاهرة، ومحال لبيع البضائع الصينية.
قصة الفيلم عن زوجة صينية – قامت بدورها إسترشطاح – تنجب ابنة هي موللي، تعرف – بعد أن وعت ما حولها – أن زوج أمها ليس هو والدها الحقيقي، لكن أخاه العاطل – عبد السلام الشريف – يبتز الأم بالسر الذي يعرفه، ويموت الأب، فيصبح العم وصيًا على ثروة أخيه، لكنه يبددها في الملاهي وصالات القمار، ويدفع بالصغيرة موللي للعمل فتاة ليل، تغير اسمها إلى تيتا وونج. تتعرف إلى محام شاب هو محسن ( حسين صدقي)، يتعاطف مع قصتها، وتنشأ بينهما علاقة حب، يرفضها العم، حتى لا يفقد بيضة الذهب، ويأخذ الغضب الرجل فيحاول قتل ابنة أخيه، لكن قدمه تزل، ويقع فوق خنجر يخترق صدره. وتتهم تيتا وونج بقتل عمها، لكن حبيبها المحامي الشاب يدافع عنها، حتى تحصل على البراءة.
لأن أمينة محمد كانت تراهن على مستقبلها الفني، فقد أفردت لاسمها موضعًا متميزًا في إعلانات الفيلم ومقدمته، يليه أسماء الممثلين: حسين صدقي وعبد السلام الشريف والسيد حسن جمعة وعثمان أباظة وحكمت فهمي وإسترشطاح. أما طاقم الفنيين فقد تقاسم التأليف والسيناريو والحوار – تقليد قديم كما ترى – أحمد كامل مرسى والسيد حسن جمعة، وأسندت أمينة محمد إلى نفسها مسئولية الإخراج!
ينسب الشريف إلى نفسه اختيار حسين صدقي لبطولة الفيلم. نشرت أمينة محمد إعلانًا في “الأهرام” تطلب وجوها جديدة لأول أفلامها، وتقدم بالفعل عشرات ممن صاروا نجومًا في الساحة الثقافية: كمال سليم، صلاح أبو سيف، محمد عبد الجواد، حلمي حليم، يوسف معلوف، محمود السباع، عثمان أباظة، صفية حلمي، حسن إمام عمر، حكمت فهمي، إسترشطاح، محسن سرحان، محمد الكحلاوي، نجمة إبراهيم، زوزو نبيل وغيرهم. وطالع الفيلم جمهور السينما في 25 مارس 1937.
أنا لم أشاهد الفيلم، ولعلي حاولت تصور عبد السلام الشريف في دور البلطجي، فلم أوفق. غاب عني أن هدوء الطبع، ودماثة الخلق، والسلوك المترفع، يختلف عن الأداء التمثيلي، بل إن الفنان قد يجيد في أداء عكس شخصيته الحقيقية، والمثل نجده في زكي رستم ومحمود المليجي وفريد شوقي وعادل أدهم..
والقائمة تطول.