في صغري، كان أبي يصحبني إلى سوق شارع الميدان بالإسكندرية. ألاحظ إصغاءه اللامبالي إلى حوار بين صاحب المحل ومساعده. يلح المساعد على سعر، بينما صاحب المحل يرجوه مراعاة الرجل الطيب – أبي – ويحتد حوار الرجلين كأنهما يعتزمان التشاجر، لكن أبي يغادر المحل، ويهمس في أذني: إنهم يبيعون الفهلوة!
تذكرت تلك الأيام البعيدة وأنا أتابع فهلوة بايدن ونتنياهو، ومشاركة جوقات الغرب الأوروبي حول الدولة الفلسطينية. بايدن يصر على إقامة الدولة الفلسطينية، في مقابل رفض نتنياهو، وتأكيده أن حدود إسرائيل – وهي بلا حدود معلنة حتى الآن – من النهر إلى البحر، أي أنها تشمل كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها الضفة الغربية وغزة!
النظرة المـتأملة إلى الواقع الجغرافي والديمغرافي لما تبقى من فلسطين المحتلة تبين أن الضفة الغربية وغزة، وهي المساحة التي يُفترض أنها خاضعة للسلطة الفلسطينية، لا تزيد عن 18 % ، تتخلل المستوطنات الإسرائيلية مدنها وقراها، وتقتحمها القوات المسلحة لجيش الحرب الإسرائيلي، تفتش، وتعتقل، وتدمر، حتى رئيس السلطة الفلسطينية تصله في مكتبه برام الله أصوات القتل والتدمير التي صارت جزءًا من الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، سواء في ما اصطلح على تسميته بمناطق ما قبل 1948، أو ما نصت اتفاقية أوسلو عليه كنواة للدولة الفلسطينية.
طال الخصام بين الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي. بايدن يدعم حليفته بالمال والسلاح والخبرات اللوجستية، لكنه يتابع أخبار المجازر التى لا تقتصر على غزة، إنما تشمل الضفة الغربية كذلك بأسلحة تولى الوزير المتطرف بن غافير توزيعها بنفسه على المستوطنين الذين رضعوا – مع لبن أمهاتهم – كراهية العرب.
والشواهد يصعب حصرها.
الرئيس الأمريكي يعلن تمنيه أن يقلل الحليف – ما أمكن – من ضحايا مجازره. يسأله الصحفيون عقب مكالمة متأخرة بينه وبين نتنياهو: هل طالبت بإيقاف الحرب؟
تعلو شفتيه ابتسامة واثقة: لم أطلب إيقاف الحرب، لكنني طلبت تقليل عدد الضحايا!
نتنياهو – في المقابل – يجاهر بالقول إنه لم ولن يغير موقفه الثابت منذ 30 عامًا، وهو إقامة الدولة الصهيونية على أرض فلسطين، التي تشمل – حسب قوله – كل ما في غربي النهر، ونتيجة لصلابة المقاومة، وتصديها الأسطورى للتصور الإسرائيلى بأن السيطرة على كل الأرض الفلسطينية مما يسهل على جنوده، فقد وافق نتنياهو على الاقتراح الذي طال رفضه له، وهو إقامة الدولة الفلسطينية على المتبقي من أرض فلسطين، على أن تكون بلا تمثيل خارجي رسمي، ومنزوعة السلاح، وتخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية.
على الرغم من أن الرئيس الأمريكي وجد في ” تنازل” رئيس الوزراء الإسرائيلي، ما يدعوه إلى إعلان نجاحه في إقناع تل أبيب بحل الدولتين، وهو إعلان استهدف الناخب الأمريكي الذي جاهر بسخطه على تبعية البيت الأبيض للسياسة الإسرائيلية. ليس ادعاء ولا تخيلًا، فالقنوات الفضائية تطالعنا بمواقف الإدانة ضد حكام بلاده في اللقاءات الانتخابية!
على الرغم من ذلك، فإن تهمة الفساد التي تنتظر نتنياهو عقب إيقاف القتال، أملت عليه العدول عن موافقته بحل الدولتين.
وسط ذلك الخلاف الهزلي بين بايدن ونتنياهو يطالعنا وزير خارجية إسرائيل باقتراح يحل المشكلة من جذورها، وهي إنشاء جزيرة صناعية في قلب البحر، يهجّر إليها الفلسطينيون، كدولة لهم. تناسى الوزير الإسرائيلي أن الشعب الفلسطيني لا يعرف سوى وطنه، تحاصره قوات جيش الحرب بما يفوق الممارسات البشعة التى عانتها الشعوب التي ابتليت بالاحتلال، ولا يملك إلًا التأكيد بأن فلسطين هي وطنه، أما جوازات سفر البلاد الأخرى التي يحملها الإسرائيليون إلى جانب جوازات السفر الإسرائيلية، فإنها تيسر لهم العودة إلي حيث أتوا.
وأشهد أني تأثرت لمشهد الجندي الإسرائيلي الشاب الذي اعتقلته المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر الماضي( الشريط على اليوتيوب )، خشى القتل – وهو ما لم يحدث – فطالب المقاومة أن تبقي على حياته، ليعود إلى البلد الآخر الذي يحمل جنسيته، وزاد فوعد بإقناع كل الشباب من جيله بمغادرة إسرائيل إلى البلاد التى عاشت فيها عائلاتهم، منذ مئات السنين!.
ألفنا في كل المؤتمرات التي شاركت فيها إسرائيل، بحثًا عن سلام حقيقي من الجانب الفلسطيني، والعربي عمومًا، تصريحات قادة الكيان بأنه لابد من قرارات مؤلمة. والغريب أن تلك التصريحات لا شأن لها بالسياسة الإسرائيلية التي تذكرنا بشيلوك شكسبير، وبالساعاتي – في النكتة المصرية – أشفق على المساحة المتبقية في إعلان نعي ابنه فأضاف عبارة” نحن نجيد تصليح الساعات”!
نتجاوز تلك الطبيعة الانتهازية التي عانى العرب ويلاتها من قبل إنشاء الدولة الصهيونية، وفي اتفاقات 1948 وما بعدها.. فنتصور التوصل – بعد مفاوضات صعبة حسب التعبير الصهيوني – إلى قيام دولة فلسطينية، لها كل مقومات الدولة..
قرارات الأمم المتحدة تنص على حدود 1967 فاصلًا بين الدولتين. القرار في ذاته ظلم لصاحب الأرض، فالغريب، الوافد، المستوطن، يقاسمه أرضه. لكن المضطر – كما يقول المثل – يركب الصعب، والاضطرار هنا هو القبول بثمار المساندة الأمريكية، والغربية، للكيان المغتصب منذ وعد بلفور، حتى إعلان الرئيس الأمريكي – مصحوبًا بدعم شكا منه دافع الضرائب الأمريكي – أنه كان سينشئ دولة إسرائيل، لو أنها لم تكن موجودة، وتباهي بصهونيته ، ووزير خارجيته بليكن تفاخر هو الآخر بيهوديته، وأن جده كان من ضحايا المحرقة النازية.
نتجاوز ذلك كله، ونتصور – مجرد تصور – أن المفاوضات أفضت إلى قيام الدولة الفلسطينية. مساحة تلك الأرض لن تزيد – بل إنها ستنقص بالتأكيد – عن 18 % من مساحة أرض فلسطين، يعمق تمزقها عشرات المستوطنات، تحتل 42 من مساحة الضفة، ويقيم فيها عشرات الألوف من المستوطنين الذين يحملون السلاح، بينما تظل المناطق العربية تحت السلطة الأمنية الإسرائيلية.
جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة أعلن أن الرفض المتكرر من إسرائيل لكل نداءات السلام غير مقبول – التعبير لجوتيريش – وسيؤدي إلى إطالة أمد الصراع.
رغم صدق النداء من سياسي عالمي تكررت مواقفه دفاعًا عن الحق، فإن الصراع سيطول بالضرورة، وقد يفضي إلى ملامح أكثر تشوهًا في الكيان الصهيوني من خلال حرب الإبادة التي تشنها قواته المسلحة على فلسطينيي غزة، بينما يؤدي المستوطنون دورًا دمويًا آخر في الضفة الغربية.
إذا كانت المقدمات تشي بالنتائج، فإن حل الدولتين، الذي يردده الجميع في ما يشبه الحلم الرومانسي، يفرض السؤال: ما تصوركم للدولة الفلسطينية المستقلة؟!