إذا كنا ندين الشمولية في أنظمة اليسار، فإننا ندين – بالقدر نفسه – سوءات النظام الليبرالي الأمريكي في تلاحق عصوره.
يكفي أن نشير إلى ويلات الفترة المكارثية، وإساءاتها البالغة للمجتمع الأمريكي، ولصفوته المثقفة بخاصة. قد نشير أيضًا إلى ممارسات جورج بوش الابن عقب أحداث سبتمبر، بداية من التنصت على المكالمات، والاعتقال للاشتباه، وانتهاء بجر الولايات المتحدة إلى حرب غير مبررة ضد كل من العراق وأفغانستان، وعلاقات عداء مع العديد من دول العالم.
ثمة عوامل داخلية أدت إلى انهيار الإمبراطورية المقابلة لإمبراطورية الولايات المتحدة، لكن من التبسيط الساذج أن ذلك هو السبب لسقوط الدولة التي كانت تهدد بصواريخها القوى الكبرى في العالم، ويمتلك علماؤها آفاق الكون، وتدعم الثورات ضد الاستعمار الغربي.
عانى الاتحاد السوفييتي – منذ الفترة الستالينية – مظاهر الفساد وافتقاد الشفافية واقتصاد الأوامر والمصادرة والاعتقالات والقهر والنفي وعمليات الاغتيال وتقييد الحريات في كل مستوياتها.
والحق أن رموزًا مهمة من المثقفين السوفييت حاولوا التنبيه إلى خطورة الوضع في الداخل، مما يمهد الأرض لمؤامرات الخارج. بلغ الأمر حد توزيع المنشورات السرية، التي تدين وتعرض وتفضح، لكن الكرملين واجه ذلك بمزيد من الغطرسة والقهر.
ومع تقديرنا لقيادات الثورة في كل من تشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندة، وتفهمنا لبواعث قيام الثورة في الدول الثلاث – وربما قامت ثورات أخرى، في دول أخرى، فأجهضت قبل أن تبين ملامحها – فإننا لا نستطيع أن نهمل التدخلات، السافرة والمستترة، من دول الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
وضع السفير جورج كينان سياسة الاحتواء التي تهدف إلى محاصرة المد الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وخارجه، على كل المستويات العسكرية والاقتصادية والثقافية: كان الصراع بين الرأسمالية والشيوعية، وكان كذلك بين السي آي إيه والكي جي بي، وتصدير المؤامرات من طرف إلى الآخر، بدعم من أموال الشركات المتعددة الجنسيات، ومن المؤمنين بالنظرية الماركسية. ولأن سلطة المال أقوى، فقد دانت الغلبة – فى النهاية – لسادة البنتاجون.
والحق أن الشيوعية – أو لنقل الاشتراكية – لم تقتل نفسها بإرادتها، وعلى حد تعبير ج. م. كوتسى، فإن ” الاشتراكية ” لم تسقط من تلقائها، إنما أسقطها الخصوم بضربات قاتلة. ربما أسهمت الأوضاع الداخلية في الدول الشيوعية في تقويض أنظمتها، لكننا لا نستطيع أن نهمل الدور الخطير الذي أدته مخابرات الغرب في ذلك الاتجاه، وهو دور لجأ إلى كل الوسائل، بصرف النظر عن بشاعتها، أو حقارتها, بداية من تثوير الجماهير، وانتهاء بالتصفية الجسدية.
كما تعلم، فإن الغرب يشمل أمريكا الشمالية، الولايات المتحدة وكندا. بالإضافة إلى أوروبا، وتشمل الأوروبيتين الغربية والشرقية. إذا قيل الغرب فهو يشمل ذلك كله. أما الشرق فهو يعنى – دون سند جغرافى – بلدان العالم الثالث فى آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، أو اللاتينية.
كان لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية أدوارها، المعلنة والمستترة، في تقسيم الكيانات ذات القوميات والعرقيات والديانات المختلفة، وتفتيتها. ذلك ما حدث في الاتحاد السوفييتي، وفي الجمهوريات اليوغوسلافية، ثم امتدت المؤامرات إلى بلاد أخري. أندونيسيا مثلًا. كانت المؤامرات الغربية واضحة في انفصال جزر تيمور الشرقية – ذات الأغلبية المسيحية – عن أندونيسيا، الوطن الأم. أذكرك بأن نسبة المسلمين في كل الجزر الأندونيسية ( عددها ) قاربت المائة في المائة، قبل أن يتسلل التآمر المخابراتي والتبشيري.
فى المخابرات الأمريكية إدارات تعنى بوسائل استخدام الأديان والأقليات لخلق الفتن الطائفية، وتقسيم البلاد على أساس اختلاف الدين والآلهة.
التآمر الأمريكى هو ضغطة الزر التى قلبت الأوضاع فى المنطقة. المثل فى الغزو الأمريكى للعراق، الأسلحة الكيماوية هى الذريعة التى اقتحمت بها واشنطن بلاد الرافدين. وكانت الخطوة الأولى للحاكم العسكرى الأمريكى حل الجيش العراقى، ثم الحديث – علانية – عن تقسيم العراق الموحد إلى كيانات منفصلة، ودويلات عرقية ومذهبية، باسم السنة والشيعة والأكراد والطوائف الأخرى التى فاجأها الاضطهاد من إخوة الوطن.
كم أذهلنى اعتراف العديد من المسئولين الأمريكيين أن تنظيم داعش، مثله مثل تنظيم القاعدة من قبل، صناعة أمريكية.
وحتى الآن، فإن السياسة الأمريكية فى الوطن العربى موزعة فى اتجاهين: العمل لصالح الدولة الصهيونية، والاستيلاء على ثرواته وموارده.
إيمان الساسة الأمريكيين – للأسف – أن بلادهم هى” القدس” الجديدة”، وأن ” العناية الإلهية هى التى اختارتها لتكون المسرح الذى يتعين فيه على الإنسان أن يبلغ إلى كيانه الحقيقى، المسرح الذى يتعين أن ينفتح فيه العلم والفضيلة والحرية والسعادة والمجد فى ظل السلام”!
تطالعنا المؤسسات الحكومية في الولايات المتحدة – بين وقت وآخر – بتقارير عن حرية الإنسان في أقطار العالم، تعرض أرقامًا، وتحلل، وتدين، وتعلن إشفاقها على مستقبل الإنسان!
اللافت أن تلك التقارير تصدر عن المؤسسات الحكومية الأمريكية، وليس عن المؤسسات الأهلية لحقوق الإنسان، سواء في داخل الولايات المتحدة، أو خارجها، ولا تبين التقارير عن أوضاع تستحق الإدانة بالفعل، لكنها تعبر عن تعدد مكاييل واشنطن في علاقاتها الدوليةـ والتعبير في سياق حديث لمادلين أولبرايت وزيرة الخارجية في عهد كلينتون، عندما سئلت: لماذا تكيل حكومتك بمكيالين؟ قالت في بساطة وثقة: بل نحن نكيل بأكثر من ذلك!
المعنى الذى أرادت أولبرايت توصيله، هو أن مواقف المناصرة والإدانة لا تتخذ لأن بلدًا ما يستحق المناصرة، بينما يتجه التشهير إلى بلد آخر. الفيصل هو مدى تقبل الحكومات، أو رفضها، للسياسة الأمريكية.
والأمثلة تتعدد باتساع العالم.
الغريب أن الدول الشيوعية اقتصرت – فى عملياتها التجسسية – على معرفة أسرار التقدم العلمي في الغرب، لكي تحصل عليه، وتحاول بلوغ آفاق متقدمة في مجالاته، وهو ما يذكرنا – للأسف – بالصراع العربي الصهيوني. إسرائيل تحرص – حتى في ظل معاهدات السلام – على التدمير والتشويه والابتلاع والتآمر، بينما تكتفي الأقطار العربية بالإدانة والشجب.
كان رأي سارتر أن الولايات المتحدة بلد انتقل من البدائية إلى التمدن، دون أن تكون له حضارة. الحضارة هي دعامات المدنية بكل ما تحمله من تقدم علمي وتكنولوجي. ذلك ما يغيب عن بلد عمر حضارته ” الجديدة” بضع مئات من السنين.
صنع مجرى النيل على ضفتي الوادي، والطمي الذي شكًل الدلتا، أولى الحضارات في التاريخ البشري. اخترع الزراعة، استأنس الحيوان، شيد البيوت، صنع الفخار، صقل الكثير من الأدوات. مصر هبة النيل، لكن المصري هو الذي صنع من عيشه على الضفتين حضارات رائعة، وجعل من النهر أحد آلهته، بينما ظلت الصورة كما هي – لآلاف السنين –في دول حوض النيل.
يروي ريتشارد كريشيفلد الحكاية من بداياتها: مجرى مياه النيل يندفع – كالسيل – من فوق الجبل. يتلمس طريقه الصعبة خلال الهضاب والأودية والرمال. يهدأ في اقترابه من الجنادل والصخور القاسية، ثم يمضي في الترع والقنوات، يغذّي الوادي الخصيب، حتى يبلغ البحر المتوسط.
الأخلاق هي البعد الأهم في الحضارة. أما المدنية فهي لا تشترط وجود ذلك البعد. على سبيل المثال، فإن الولايات المتحدة، وغيرها من الدول المستعمرة ( أرفض التسمية، لأن الاستعمار من العمران. التسمية الحقيقية، الموضوعية، هي الاحتلال!) يشغلها التقدم، دون تقيد بالوسائل إن صدرت عن بواعث أخلاقية أو العكس.