ناوشني السؤال، وأنا أطوي الورقة الأخيرة في كتاب سرديات عبد الفتاح الجمل: هل أغبط عائشة المراغي على إعادة نشر كتابات الجمل، بعد عناء البحث والمراجعة والتدقيق، وتقديم الصياغة التي بدّلها الكاتب حتى استقر على ما يرضي ذائقته الفنية؟ أو أن الحسد – وأعتذر لفجاجة التعبير – هو الإحساس الذي غادرت به مبادرة المراغي لجمع تراث الجمل الأدبي، وتقديمه في مجلد، بداية – كما أشارت المراغي في تقديمها – لمجلدات تالية؟
حددت عائشة المراغي كتابات عبد الفتاح الجمل السردية بخمسة نصوص، هي: الخوف، آمون وطواحين الصمت، وقائع عام الفيل، محب.
بالطبع فإن نصوص الجمل السردية تشمل كتاباته في المساء وأخبار الأدب، اليوميات التي عبر فيها عن البسطاء من الناس، وما رافقها، وأعقبها، من الخواطر والملاحظات النقدية.
يمهد الجمل لسردياته بمقولات لابن عروس وابن المقفع والصلوات والأدعية المصرية القديمة.
كتاب “آمون وطواحين الصمت” ثمرة رحلتين قام بهما الجمل، الأولى من الإسكندرية إلى السلوم، والثانية من مرسى مطروح إلى سيوة، الرحلتان – في وصف صبري حافظ – لون جديد من أدب الرحلات.
أعادتني كلمات الجمل عن تأثير واحة سيوة في حياة الإسكندر المقدوني، ما عرضت له روايتي”غواية الإسكندر”، في نسبته إلى الإله المصري آمون: ” كان يرتاح كثيرًا عندما ينادى بابن زيوس”آمون”، وغضب من المتشككين والهازئين من قومه، الذين ينكرون عليه وحي آمون”. يضيف الجمل أن الإسكندر قد أصبح إلها في مصر، دخلها إنسانًا، وخرج منها إلهًا.
يطيل الكاتب تأمل الحياة في واحة سيوة، تاريخًا ومجتمعًا وتوقعات مستقبلية. إنها – حسب تعبير الجمل – شريط طويل حافل في تاريخنا القديم والحديث وتاريخ العالم، الشريط الذي عبئ بالألغام والذخائر والحشود والنيران في البر والبحر والجو، ومازال يحوي الألغام والدمار الكامن. ويعمق إدراكنا لبشاعة الحرب في دفن ما تسعه أرض المقابر من قتلى الحرب العالمية الثانية، وإلقاء آلاف الجثث في البحر. لا حساب للجنسية، ولا للرتبة العسكرية، إنما هي جثث زائدة عن استيعاب المقابر، فالبحر قبرها طعامًا لمخلوقاته.
وجد الجمل في شجرة الزيتون بشيرًا، إرهاصًا، بثورة تهز الساحل الغربي، وتغطي أرضه بدفقات الحياة.
أما شجرة التين فهي ” القاعدة القرفصاء، الفارشة في الأرض كما تفرش الفلاحة مشنتها بين ساقيها. إنها شجرة عريقة، تواصل نسلها منذ عصور الفراعنة حتى أيامنا الحالية، وإن تقلصت مساحتها بصورة لافتة.
وأما النخلة المقدسة، المباركة، رمز الخير والخصب والشفاعة. فهي – في تقدير الجمل – المواطن رقم واحد بسيوة. ويشير إلى القول المتوارث: ” ثلاثة ماتوا فيبقى ذكرهم: من ترك ولدًا صالحًا، أو ألف كتابًا، أو غرس نخلة لوجه الله.
والغنمة حرفة مهمة في الساحل الغربي، وعلى حد تعبير الجمل فإن الغنمة هي ثروة الساحل الغربي وقوام حياته، ولم تقم مشروعات السدود، وحفظ التربة العضوية من أن يجرفها السيل إلّا من أجل هذه الغنمة طعامًا وشرابًا.
وينقل الجمل عن مجلة المجمع المصري للثقافة العلمية ( 1934 ) دراسة عن مشروع كبير لتعمير منطقة الآبار الرومانية في الساحل الغربي، يعيد استخدام خزانات المياه التي بناها الرومان، وهي تجاويف كبيرة في الصخر. وترى المجلة أن ” هذا المشروع مهم من الوجهة الاقتصادية، إذ بنجاحه تستعيد هذه المنطقة أهميتها التي كانت عليها في العصور الغابرة. وكانت تعتبر بلاد الزيتون، ولتحقيق ذلك الهدف فقد أرسلت وزارة الزراعة آلافًا من فصائل الزيتون. فهل نطلب اليوم – والسؤال للجمل – إلّا هذا أو بعضه؟!”.
ظني أن عبد الفتاح الجمل قصد اللغة الأمازيغية في حديثه عن اللغة السيوية. سيوة هي الواحة التي تفصلها الصحراء عن بقية مصر، ولغتها الآن – أو لغتها الثانية – هي الأمازيغية، تنتشر – كما تعلم في أقطار المغرب العربي، بل إنها – رسميًا – هي اللغة الثانية.
أما كتاب “ وقائع عام الفيل“، فقد أتاح لي عبد الفتاح الجمل قراءته في نسخة حصلت عليها من شقته في مدينة نصر، بعد أن جعل التعسف الوظيفي لقاءات الزمالة في “المساء ” من الماضي. محوره المضموني كلمات ابن المقفع” صاحب السلطان كراكب الأسد، الناس تهابه، وهو لمركبه أهيب”.
الدلالات تتجاوز أسماء الشيخ نصر الدين الشهير بجحا والابن كماشة وحمار جحا والسلطان وتيمورلنك وغيرهم. القراءة المتصفحة تشي بمواقف وعظية وحكمية وطرائف، تذكرك بما فعله أستاذنا توفيق الحكيم في كتابه” أشعب أمير الطفيليين”. أنت تعيد القراءة، فتتجاوز المحددات والأسوار، تمتد المعاني في القضايا الثابتة والمجردة، والملامح الواضحة والرامزة والمخفية. تحدق فيها بالقراءة والتأمل، والتعرف إلى ما في السطور، وما بين السطور.
العربية هي اللغة التي أجاد عبد الفتاح دراستها، ثم أجاد تدريسها، ثم أخلص لها كاتبًا صحفيًا وروائيًا. نحن نجد في لغة الجمل، السرد الذي صاغ به كتاباته، امتدادًا جيدًا للغة التي طالعتنا في الكتابات الرائدة للمازني، وتواصلها في كتابات حسين فوزي ويحيى حقي ومحمد عفيفي وغيرهم. ثمة التحدثية والبساطة، وتضفير الفصحى بمفردات من العامية، فضلًا عن المفردة المنتزعة من موروثنا الديني والشعبي والتاريخي.
إنه تأثير البيئة.
كان حب عبد الفتاح الجمل لدمياط، ولقريته محب بخاصة، معلنًا، ليس مجرد إحساس بالانتساب إلى مسقط الرأس وأيام الطفولة والصبا، إنما هو عين صاحية، أحسنت – منذ وعيها الباكر – التقاط مفردات البيئة في اللغة واللهجة والمهن والحرف والتقاليد والعادات المتوارثة.
كانت سيارة “المساء” تقلنا – كمال الجويلي وأنا – في الطريق إلى مناسبة ثقافية بدمياط. بدا الجمل قادمًا من ميدان عرابي.
سأل:
-إلى أين؟.
– دمياط.
قال الجمل ويده تفتح باب السيارة:
– خذوني معكم!
استعدت في رواية صلاح أبو سيف عن اكتشافه موهبة السيناريو السينمائي في الإبداع السردي لنجيب محفوظ، ما دفعه إلى تعليمه أسس كتابة السيناريو، وتكليفه بسيناريو فيلم” عنتر وعبلة” بداية لمزاوجة محفوظ بين الكتابة الروائية والكتابة للسينما.. استعدت تلك الرواية في تزكية محمد على ناصف المدير الأسبق للمصنفات الفنية موهبة الجمل في فسيفسائه السردية موهبة واعدة في السيناريو السينمائي, خص الله عبد الفتاح – والقول لبدر الديب – بعبقرية لغوية، تجعل كلماته تتقلب في طاسات جمله وتعبيراته، كما يتقلب السمك الحي إذا خرج من الماء، أو وضع فوق النار. كان يعرف النحو والصرف واللهجة العامية وتعابير الفئات الاجتماعية معرفة خاصة، ناقدة ومحيطة. وكان يعطينا كل هذا الثراء بسهولة ويسر في كتبه التي يجب أن نعتبرها ثورة ثقافية نادرة”.
مثل عبد الفتاح الجمل ظاهرة ثقافية مهمة، أوضح تجلياتها إتاحة الفرص لأجيال من المبدعين، وإن ظلت علاقته بالقراءة الذاتية والقراءة ممارسة يومية.
عدت إلى ” المساء” من رحلة عمل خليجية. كان عبد الفتاح قد ترك الجريدة، فر بنفسه من تعسفات غريبة، أسخفها الأمر بالتوقيع اليومي في التاسعة صباحًا، والتوقيع عند الانصراف في الثالثة عصرًا، فإذا تأخر التوقيع دقائق قليلة خصم اليوم كله!
هل تستكمل عائشة المراغي مبادرتها الخلاقة، فتجمع كتابات الجمل – حتى مذكراته الشخصية – وتصنفها، وتفهرسها، تكرار جيد، مطلوب، لما فعله فؤاد دوارة حين دفع إلى المطبعة ما يقارب الثلاثين مؤلفًا من كتابات يحيى حقي، بعد أن قصرها الإهمال في آحاد المؤلفات؟!