فى قراءاتى الباكرة، كنت أخلط بين اسمي عبد الرحمن الرافعي ومصطفى صادق الرافعي، ثم تصورت أنهما شقيقان، ثم عرفت – باتساع المعرفة والوعي – أن عبد الرحمن الرافعي هو مؤرخ مصر الحديثة، تغفر له مصريته الصادقة – هي كذلك بالفعل، رغم أنه ليس مصري الأصل – انحيازه الواضح إلى آراء الحزب الوطني، وهي آراء جانبها التوفيق أحيانًا، وبخاصة فيما يتعلق بالحركة العرابية.
أما مصطفى صادق الرافعي، فكتبه هي الإضافة المتميزة إلى أدبنا العربي المعاصر – شعره ونثره – ولا تزال تجد أصداء واسعة بين قراء العربية في توالي طبعاتها.
وإذا كانت ذاكرة التاريخ قد أسقطت الكثير من الأسماء التي حقق أصحابها – في حياتهم – مكانة وشهرة متفوقة، فإن القلة هي التي ظلت في عقل القارئ ووجدانه، وظل حريصًا على اقتناء مؤلفاتها، وقراءتها، وإثارة النقاش حولها. وفي مقدمة هؤلاء، أديبنا مصطفى صادق الرافعي.
ولد مصطفى صادق الرافعي في الأول من يناير 1880 بقرية [ مدينة ] بهتيم التابعة لمديرية [محافظة ] القليوبية، وأمضى حياته في مدينة طنطا، حتى توفى في مايو 1937 ، فهو قد عاش سبعة وخمسين عامًا، ثمارها الكثير من الإبداعات والدراسات والمعارك الثقافية.
أصل عائلته من مدينة طرابلس في لبنان، وهى موجودة في طرابلس حتى الآن، وإن توزع الكثير من أبنائها في أرجاء العالم، شأن أبناء الشام، وميلهم إلى الهجرة نشدانًا لفرص العمل من ناحية، ولأن تلك كانت صورة الحياة في الدولة العثمانية التي كانت تضم إليها – فيما تضم – أقطار الوطن العربي. وكان أول من قدم من عائلة الرافعي إلى مصر الشيخ محمد الطاهر الرافعي ( 1827 ) وتولى قضاء المذهب الحنفي بأمر من السلطان العثماني آنذاك.
لاحظ الراحل محمد سعيد العريان في كتابه المهم ” حياة الرافعى ” أن العمل الرئيس لرجال عائلة الرافعي كان القضاء الشرعي، واقتصر معظم وظائف القضاء والفتوى عليهم – وهو ما أثبته المعتمد البريطاني اللورد كرومر في تقرير له إلى وزارة الخارجية في بلاده – وفي وقت واحد، كان يشغل وظيفة القاضي في المحاكم الشرعية المصرية أربعون قاضيًا من عائلة الرافعي.
تعلم الرافعي – في طفولته – مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ أجزاء من القرآن الكريم. ثم دخل المدرسة الابتدائية بدمنهور في 1892، بمعنى أنه بدأ الدراسة المنظمة في الثالثة عشرة من عمره، وحصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة المنصورة الابتدائية في 1897، وكان في السابعة عشرة.
عمل الرافعي كاتبًا بالمحكمة الشرعية في طنطا، ثم كاتبًا بالمحكمة الأهلية في المدينة نفسها، وكان عمله تقدير رسوم القضايا والعقود وغيرها من أعمال المحكمة. وهو عمل لم يكن يحتاج إلى أحاديث متبادلة بين الرافعي والمتقاضين، حتى لا يعوقه الصمم عن أداء عمله. وظل في هذه الوظيفة حتى وفاته في العاشر من مايو 1937. وقد تزوج وهو في الرابعة والعشرين من شقيقة صديقه عبد الرحمن البرقوقي محرر مجلة “البيان “، وأنجب منها عشرة أبناء.
آثر الرجل أن يظل أديبًا إقليميًا، أي أديبًا يحيا خارج العاصمة بكل ما تمثله من فرص النشر والانتشار. وقابل بالرفض كل محاولات أصدقائه للانتقال إلى القاهرة. قال إنه يريد الحياة بالقرب من مقام أحمد البدوي. وكان حبه لولي الله معلنًا، فهو يجلس في صحن الجامع الأحمدي – بالساعات – يتلو القرآن، ويقرأ الأدعية، ويصادق الحضرة الأحمدية بكل مشاعره.
السؤال الذى يفرض نفسه: لماذا لم يحصل الرافعي على المكانة نفسها التي بلغها ابنا جيله طه حسين والعقاد؟
لعل بعض الإجابة فى وفاة الرافعي في سن باكرة نسبيًا بالقياس إلى العقاد الذي مات بعد أن بلغ الخامسة والسبعين، وطه حسين الذى جاوز الثمانين. وبعض الإجابة أيضًا في المرض المصري المتوطن الذي يقصر ” النجومية ” على واحد أو اثنين، ويهمل الآخرين. وبالتأكيد فإن العقاد وطه حسين لم يكونا أهم رموز عصرهما، كما ظهرت قامات – إلى جانب شوقي وحافظ – لا تقصر عن قامتيهما. وبالمثل فإن أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ومحمد رفعت ونجيب محفوظ وغيرهم ليسوا ظواهر متفردة، إنما هم – مع اعترافنا بقيمتهم المؤكدة – تعبير عن ذلك المرض المصري المتوطن الذي لا يجد في القمة متسعًا إلا لواحد أو لاثنين، وإن برؤ جيل الستينيات – إلى حد كبير – من هذا المرض، فأنت لا تستطيع أن تجد إجماعًا على مبدع بالذات في أي جنس فني!.. وربما أضفنا إلى ذلك أن الرافعي حرص على أن يظل في طنطا، لا يغادرها إلى العاصمة. فهو – بلغة هذا الزمن – أديب إقليمي، مثله فى ذلك مثل العشرات من الموهوبين الذين تزخر بهم الأقاليم المصرية، أعاق حصولهم على المكانة التي يستحقونها إصرارهم على أن يظلوا في مدنهم وقراهم، بينما تعمل وسائل الإعلام ومؤسسات النشر بالمثل الشعبي: البعيد عن العين، بعيد عن القلب!.
كان للرافعي محاولاته الباكرة ( 1910 ) في تحطيم التقليدية في الشعر العربى، فهى أسبق من كل المحاولات التى عنيت بتحرير القصيدة العربية من الوزن والقافية. بالإضافة إلى بعد آخر هو كتابته للقصائد الوطنية، التى تحول بعضها إلى أناشيد ملحّنة، أشهرها ذلك النشيد الذي لحنه صفر علي ، ملحن نشيد “اسلمي يا مصر “: حماة الحمى.. يا حمـاة الحمى.. هلمــوا هلموا لمجد الزمـن.. فقد صرخت في العروق الدمـا.. نموت نموت.. ويحيا الوطـن.
وعلى الرغم من المكانة التي حققها الرافعي بين شعراء عصره، فإنه لم يستمر في كتابة الشعر. انصرف عنه إلى الكتابة النثرية. صدر للرافعي فى النثر الشعري” رسائل الأحزان ” و” السحاب الأحمر ” و” حديث القمر” و” أوراق الورد ” و” المساكين “. وأحدثت تلك الأعمال – بين قراء العصر – تأثيرًا لا يقل عن تأثير كتابات المنفلوطي الذي قال عنه أستاذنا نجيب محفوظ أن جيله كان يقرأه ويبكي، مع الفارق – طبعًا – في الوسيلة الفنية، أو الجنس الأدبى لكل من المنفلوطى والرافعى، فكتابات المنفلوطى تمثل إرهاصات قصصية. أما كتابات الرافعى فهى ريادة لمحاولات تالية، اختارت تسمية النثر الشعرى، ثم تحولت – فى أحدث الأجيال الشعرية – إلى قصيدة للنثر!.
كانت ” رسائل الأحزان ” و” السحاب الأحمر ” و” أوراق الورد ” تعبيرًا عن حبه لفاتنة مثقفي العصر مي زيادة. أحبها الرجل مثلما أحبها العقاد وخليل مطران وطه حسين ولطفي السيد وغيرهم من الرموز الثقافية آنذاك – أى سر كانت تملكه تلك الجميلة ؟! – وكان حب الرافعي لمي عاصفًا، وإن لم يغادر داخل نفسه. كان حبًا من طرف واحد، لم يبح به إلاّ لرسائل أحزانه!.
ذكرني الرافعي باعتراف عمر بن أبي ربيعة – قبل أن يسلم نفسه للموت – أن كل حكايات الحب التي رواها في قصائده، إنما هي من اختراع خياله – مع تباين في طهارة الخيال عند الرافعى وفحشه عند ابن أبي ربيعة – فلم يرد الرافعي على قول مي إن الرسائل التي كتبها عن لسانها من إنشائه، لا من إنشائها!.
واللافت أن نثر الرافعي الشعري لم يلجأ إلى كلمات تخاطب الحس في مشاعر المتلقي، إنما جاءت كلماته جميعًا – في سياقها – نقية، مجلوة، تخاطب أجمل ما في وجدان المتلقى. لم تكن كتاباته في الحب مجرد فضفضة، ولا بثًا بما يمور في النفس من مشاعر، بل ولا مجرد شكوى من صدود المحب وهجره، لكنه أودع خواطره المحبّة فلسفته في الحب، وفي الجمال. يقول: ما أريد من الحب إلاّ الفن، فإن جاء من الهجر فن، فهو الحب. ويقول: ” يتحول الحب إلى ملكة سامية في إدراك معنى الجمال، فيكون الوجه المعشوق مصدر وحي للنفس العاشقة، وبهذا الحب ينزل المحب من المحبوب منزلة من يرتفع بالآدمية إلى الملائكية، ليتلقى النور فنًا بعد فن، والفرح معنى بعد معنى، والحزن السماوي فضيلة بعد فضيلة، فهذا الحب هو طريقة نفسية لاتساع بعض العقول المهيئة للإلهام كي تحيط بأفراح الحياة وأحزانها، فتبدع للدنيا صورة من صور التعبير الجميلة التي تثير أشواق النفس”.
كان للرجل مشروعه الأدبي والفكري، وكان في قمة هذا المشروع دراساته في القرآن الكريم. أما الكتابة عن الدين، والكتابة عن الحب، فقد كان رأى الرافعي أن ” الدين والحب خرجا من الجنة مع آدم وحواء، فكان الدين في تقوى آدم وتوبته، وكان الحب في جمال حواء ودموعها “. ويؤكد المعنى في تحديده لرسالته الأدبية: ” أنا لا أعبأ بالمظاهر والأغراض التي يأتي بها يوم، وينسخها يوم آخر. والقبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلاّ ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة. ولذا لا أمس من الآداب كلها إلاّ نواحيها العليا، ثم انه يخيّل لي دائما أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه”.
نحن نستطيع في كتاب ” من وحي القلم ” أن نتعرف إلى الخصائص الأسلوبية والفنية في كتابات الرافعي، بالإضافة إلى القضايا المهمة التي تناولها الرافعي في مقالاته.
أما أهم معطيات الرافعي في الكتابة النثرية، فهو كتابه ” تحت راية القرآن”. إنه يخاطب العقل، ويناقش المسلمات، ولا يرفض العلم في دائرة التجرد.
إذا كانت حياتنا الثقافية قد شهدت الكثير من المعارك، فإن المعارك التي خاضها مصطفى صادق الرافعي ضد عدد من مفكري العصر وأدبائه، تظل ثابتة في الذاكرة الثقافية، لخطورة القضايا التي تناولتها من ناحية، ولحدة المساجلات بين أصحاب الرأي وأصحاب الرأي الآخر من ناحية ثانية.
ألف الرافعي ” تحت راية القرآن ” ردًا على كتاب طه حسين ” في الشعر الجاهلي”. وكان كتاب طه حسين قد أحدث ردود أفعال واسعة، مقابلًا لانطلاقه من مذهب الشك الديكارتي، بحيث شك بما ورد في القرآن الكريم حول قصة إبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة المشرفة. كما ذهب إلى أن معظم الشعر الجاهلي من وضع شعراء العصر الإسلامي، فلا صلة له بالعصر الجاهلي.
شارك الرافعي في الحملة العنيفة التي شنها عدد من مفكري الفترة وأدبائها بسلسلة من المقالات نشرتها له جريدة ” كوكب الشرق “. وبقية القصة معروفة، حين أحيل طه حسين إلى النيابة العامة، فانتهت إلى أن ما توصل إليه طه حسبن من نتائج، سبقه إليه فيه بعض المستشرقين، وحفظت النيابة أوراق القضية لعدم كفاية الأدلة، ولثبوت حسن النية فيما صدر من طه حسين. وتوقفت الخصومة – من يومها – بين الرافعي وطه حسين.
هذا الكتاب ” تحت راية القرآن ” يضم المقالات التي كتبها الرافعي، ردًا – كما أشرنا – على كتاب طه حسين ” فى الشعر الجاهلى “. وقد اعترف الرافعي بلجوئه إلى كلمات قاسية، من السذاجة – بالطبع – أن أقلل من قسوة الكلمات، أو أهبها دلالات لا تحتملها، وإن كان من المهم أن أشير إلى أن قضايا العقيدة الدينية، ومحاولات التشكيك في ثوابتها، يصعب أن تخضع للمناقشة التي قد تهمل العاطفة الدينية تمامًا. إنها تكوين أساسي في طبيعة المرء المتدين، تفوق – ربما – عاطفته الأسرية، وتفوق حتى حب الوطن!. إنها حب المرء لدينه، لموروث هائل من الأوامر والنواهي والحياة الجسر إلى الآخرة والحساب والجنة والنار إلخ. إنها كل ذلك، وهي – فى الوقت نفسه – ثورته المؤكدة على ما قد يتصور أنها محاولة للنيل من عقيدته الدينية!
في ضوء هذا المعنى – الذي أرجو ألاّ أكون قد أسرفت في تبسيطه – يجدر بنا أن نقرأ كتاب الرافعي “تحت راية القرآن “. ولتأذن لي – لمجرد التدليل – في نقل هذه الكلمات من تقديم الرافعي لكتابه: “.. فمن ثم نزعنا في أسلوب الكتاب إلى منحى بياني نديره على سياسة من الكلام بعينها، فإن كان فيه من الشدة أو العنف أو القول المؤلم أو التهكم، فما ذلك أردنا، ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتدى أن يضل، فما به زجْر الأول، بل عظة الثانى “.