أشرت إلى هذه البديهية – أعتبرها كذلك- في العديد مما كتبت. كررتها حتى مسني الملل، وبالتأكيد فإنه مس القارئ أيضًا.
حين نتناول مبدعًا ما – سيرته الحياتية والفنية – فإننا يجب أن نضعه في عصره، لا نناقش على مبارك – بانتمائه الوظيفي والاجتماعي والثقافي إلى عصر إسماعيل – بالنظرة نفسها التي تناقش كتاب الأجيال التالية: محمد المويلحي ولطفي جمعة وحسين هيكل وشوقي وحافظ والجارم وخيري سعيد وطاهر لاشين وحسين فوزي وطه حسين والعقاد والحكيم ومحمود كامل والبدوي ومحفوظ والسحار وباكثير والشرقاوي وغراب ومكاوي وإدريس إلخ.. وامتدادتهم في جيل الستينيات والأجيال التالية.
ثمة العديد من النقلات فى مسيرة نجيب محفوظ الإبداعية، تمثل كل منها ملمحًا مغايرًا، بحيث تضيف – بتجاورها، وتداخلها – إلى الدنيا المحفوظية بكتابها المترجم، الوحيد، ورواياتها (38 رواية) وقصصها (15 مجموعة قصصية)، بالإضافة إلى آلاف المقالات، ومئات الكتب والدراسات الأكاديمية، والمؤتمرات التى كان نجيب محفوظ محورًا لها.
أما النقلة الأولى فتبين في نهم القراءة، والخبرة، ومحاولة الاكتشاف، ثم الاستقرار على المعانى، دون الوسائل التي تتضمنها، وقد وجدت تلك النقلة تعبيرًا عنها في مقالات نجيب محفوظ المتفلسفة التي نشرتها له “رسالة ” الزيات.
أما النقلة الثانية، فهي محاولات أولى في الرواية التي توظف التاريخ، حكى فيها محفوظ روايات والتر سكوت التي وظفت التاريخ الإنجليزى [ترجمته لكتاب ” مصر القديمة ” معلم مهم فى هذا السبيل] لا ندري: هل احتفظ محفوظ بالعملين الأولين اللذين نصحه سلامة موسى بعدم نشرهما، أو أنه وجد في نصيحة سلامة موسى ما يدفعه إلى تمزيق ما كتب؟
لكن سلامة موسى نشر له “عبث الأقدار”، أول رواية في مرحلة توظيف التاريخ الفرعونى، تلتها – في لجنة النشر للجامعيين – “رادوبيس” و” كفاح طيبة”.
أما النقلة الثالثة، فهي مرحلة الواقعية الطبيعية التي مهد لها محفوظ بالكثير من القصص القصيرة [أكثر من ثمانين قصة قصيرة، أقلها يوظف التراث الفرعونى، والعربى أحيانًا، ومعظمها يمكن انتسابه إلى ما يسمى بمرحلة الواقعية الطبيعية]، وهى المرحلة التى وجدت بدايتها في ” خان الخليلى”، تلتها ” القاهرة الجديدة” [ليست فضيحة فى القاهرة، ولا القاهرة 30]، ثم ” زقاق المدق “، فـ ” السراب ” و” بداية ونهاية ” إلى ” ثلاثية بين القصرين” [بين القصرين، قصر الشوق، السكرية]
لعلنا – فى هذا السياق – نتذكر قوله: “الشخصية الواقعية تنسى، لأن الخلق يحيلها شيئًا آخر. الأصل في الواقع ينسى، ولا يعرف تاريخيًّا إلا طبقًا لتسجيلك أنت، الأصل لا يهم”.
أما النقلة الرابعة، فتبين عن تحير فني وفلسفي، يتوضح في العودة إلى كتابة القصة القصيرة، ومحاولة لملمة ما ينتسب إلى فلسفة الحياة التي تجد بدايتها – كما أشرت- في مقالات نجيب محفوظ القصيرة، ثم فى أعماله الفنية التي تضمنتها بواكير قصصه القصيرة، ثم روايات المرحلة التاريخية، أو التي وظفت التاريخ، ثم روايات مرحلة الواقعية الطبيعية.
كتب نجيب محفوظ “أولاد حارتنا”، يناقش فيها العديد من الأسئلة الكبرى، على المستويات الميتافيزيقية والدينية والاجتماعية والسياسية [في تصورى أن ” الحرافيش” إعادة صياغة فنية لـ” أولاد حارتنا“، تشي بهذا اللغة الصوفية التي كتبت بها، في مشابهة للغة “اللص والكلاب” و” الطريق” و”الشحاذ “، وألحت المجموعة القصصية “دنيا الله” – بصورة أساسية – على قضية الموت، بالإضافة إلى قضايا سياسية واجتماعية أخرى].
وكانت مرحلة تأكيد فلسفة الحياة في أعمال محفوظ هي النقلة الخامسة، تبين عنها روايات: السمان والخريف، اللص والكلاب، الطريق، الشحاذ. ثمة العلم والدين والعدالة الاجتماعية [قال عبد الناصر – قبل مرحلة الجزر السياسى – إنها الاشتراكية] معالم واضحة في هذه الروايات، وكانت تعاني الشحوب، أو الظلال، في أعمال سابقة.
وكان المشروع القومي الذي وضحت ملامحه في الستينيات، وما تمخض عنه من إبداعات تنتقد الناصرية من بدايتها، دافعًا لما يمكن وصفه بالنقلة السادسة التي تتبدى في العديد من الروايات والمجموعات القصصية المحفوظية. وقد زادت تلك المرحلة من إلحاحها عقب النكسة، إلى حد التعبير بحواريات نسبها النقد المجامل إلى فن المسرح، وحين سألت أستاذنا نجيب محفوظ عنها، قال في بساطة واقتناع حقيقي: إن الوصول للمتلقي العادي كان حرصه في تلك الأيام العصيبة، وإنه كان على استعداد للتعبير بلغة “المقامة” لو أنها أتاحت له بلوغ هدفه.
حاول نجيب محفوظ – فيما بعد – أن يواصل نقداته الاجتماعية والسياسية، ويعمق فلسفة حياته، ويستعيد ذكريات الطفولة، كما فى قصة “صدى النسيان”، وذكريات الشباب، كما في “قشتمر”، أما ” أصداء السيرة الذاتية ” فلعلى أجد فيها ما يذكرنى بذلك الذى انتهى من عصر ليمونة، ثم وضعها بين حافة سكين، فنزلت قطرات قليلة، لكنها قوية التأثير.