إذا كان نجيب محفوظ يعتز بطفولته فى حى الجمالية ( 11 ديسمبر 1911)، مثلما يعتز به الحى، ومثلما تعتز به مصر كلها، والوطن العربى جميعًا.. فإن من حق الإسكندرية أن تنسبه إليها، ليس بالمعنى المطلق، وإنما بمعنى الانتماء العائلى.
نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم الباشا. هذا هو الاسم الرباعى لعميد الرواية العربية، فاسمه المفرد مركب من اسمين تقديرًا – من الوالد – للطبيب العالمي الراحل نجيب محفوظ الذى أشرف – منذ مائة وعشر سنوات – على ولادته.
فى قراءة متعجلة لصديق عمره محمد عفيفي عرفت أن لقب عائلته” السبيلجي”، فكتبته باعتباره كذلك، ونقل الآخرون التسمية، دون أن يعلق محفوظ، فتأكدت أن هذا هو لقب العائلة بالفعل.
لعله جعل الستارة التي كانت تفصل بين الطاولة التي يكتب عليها، وبين بقية الشقة، فاصلًا مماثلًا في علاقاته بالمجتمع الثقافي، يتردد على المقاهي، ويسهر مع الحرافيش، لكن حياته الشخصية تظل شأنه الذي لا علاقة به لأحد، ثم كانت وظيفته عند” نوبل” – والتعبير له – بداية تحول شقته إلى شوارع تعاني الزحام!
لم يكن محفوظ يعلق على ما ينشر من سيرته الشخصية الفنية، أو يوضح الوقائع التي يجب تصويبها، مثل اكتفائه بالصمت أمام قول أستاذنا توفيق الحكيم في عيد ميلاد محفوظ الخمسين: انت لازم تتجوز يا نجيب. وكان الرجل متزوجًا، وله ابنتان. وبلغت الثرثرات حول الحياة الشخصية لمحفوظ حد تزويجه – على لسان الناقد الراحل توفيق حنا – سيدة يونانية، ثم تأكد –فيما بعد – مصريتها الخالصة. وبعد انتقال محفوظ إلى بيته بشارع النيل، ظل عنوانه في المكاتبات الرسمية عشرة شارع رضوان شكري بالعباسية، وهو البيت الذي عاش فيه – مع عائلته – منذ انتقالها من بيت القاضي.
وإذا كان محفوظ قد صمت عن الرأي الذي يرجع نهاية أحداث الثلاثية إلى إبريل 1952، فإن الفترة التاريخية تنفي هذا الرأي، لسبب بسيط، هو الحوار الذي نال فيه أحد شخصيات الرواية – بصورة مباشرة – من الملك فؤاد، بما يعرض الرواية للمصادرة المؤكدة، وهو ما واجهه كتاب عبد الرحمن الرافعي عن الزعيم أحمد عرابي، الذي صدر قبل ثورة يوليو ببضعة أشهر!
وقد نفى سعيد السحار واقعة تقليبه أوراق الثلاثية، وقوله: إيه الداهية دي؟، ثم اقتراحه أن تصدر في ثلاثة أجزاء، ووافق محفوظ على قول السحار بأن كثرة صفحات الرواية، وليست “الداهية”، كانت هي الدافع لإصدار الثلاثية بمسميات: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية.
أدركت – في هوجة نوبل، وما بعدها– أن السبيلجي صفة أطلقها عليه عضو الحرافيش محمد عفيفي لحبه الأسبلة فيما أحب من القاهرة الجمالية. ولعلي أذكرك بنظرات أمينة من مشربية بيت أحمد عبد الجواد في بين القصرين ( قصر بشتاك ) على سبيل عبد الرحمن كتخدا.
ذات يوم، قال لى نجيب محفوظ – فى جلستنا اليومية بقصر عائشة فهمى المطل على نيل القاهرة – إن أصوله من رشيد، وعائلة الباشا معروفة حتى الآن فى المدينة التاريخية.
ربما من حقى أن أزعم الانتساب – بالتلمذة – إلى محفوظ، لكن من حقى – أو من واجبي – أن أعتز بالانتساب إلى عائلة الباشا.. فالمواطن السكندري مصطفى حسن الباشا ذو الأصول الرشيدية صاهر عائلة جبريل بزواجه من شقيقتى الكبرى.
فى صباي، كنت أتابع حركة ما قبل طلوع الصباح فى حلقة السمك: صف الطبالى، تفريغ السمك، عمليات المزاد، بيع الشروات وغيرها مما ألفت السعى إليه من بيتنا فى شارع إسماعيل صبرى، بعد أداء صلاة الفجر فى سيدى على تمراز.
كانت الدنيا شتاء. قلت البلانسات بما تحمل من أسماك، وقلت – بالتالي – أعداد الصيادين والسماكين وطالبى الشروات. كومة من طبالى البربونى والمرجان يغطيها الثلج، وعربة يد فى المدخل التف حولها النسوة ، جرى البائع بالسكين على عنق الترسة الملقاة على ظهرها، فأسرعت الأكواب الفارغة ناحية الثقوب المحيطة بالعربة، لتمتلئ بدم الترسة الساخن، اعتقادًا بأنه يشفى من العكوسات والأمراض والعقم.
التف الصيادون والباعة حول اثنين من المعلمين، يتعاطيان النرجيلة، ويجيبان عن الأسئلة التى تفد عفو الخاطر، ويتكلم الجميع فى غير موضوع محدد.
أمن المعلم على قول صياد:
– هذا صحيح.. الإسكندراني أصله من رشيد!
لم أكن تابعت الكلام من بداياته، وإن ظلت العبارة تشغلنى حتى عدت إلى البيت. سألت فيها أبى. قال:
– الإسكندرية فى موضعها من قبل أن يأتى الإسكندر.. ولعل الرجل قال ذلك لعلاقات النسب والمصاهرة بين أبناء الإسكندرية ورشيد.
معظم كتابات نجيب محفوظ عن الجمالية، عدا استثناءات جاوز فيها قاهرة المعز إلى النيل وبين السرايات وكلوت بك وشبرا ومصر الجديدة وفوق هضبة الهرم..
المدى التالي في الحفاوة المحفوظية هو الإسكندرية. كتب عنها فى الطريق والسمان والخريف وميرامار والعديد من القصص القصيرة.
هل لأن الدم يحن؟ هل لأن عائلته من رشيد التى هى – كما قال معلم الصيادين – أصل الإسكندرية؟
تماحيك؟!
ما أسعدني بها إن نسبت الروائى ” الباشا ” إلى الإسكندرية.. مدينة حياتي كلها!