بقلم/إبراهيم موسى النحَّاس:
بعد ديوانه (قلبي عليه مئذنة) وديوان (طلَّة من برواز)ها هو الشاعر محمد فرغلي يطل علينا بديوانه الشعري الجديد الذي يحمل عنوان (إيكو)/ أي الصدى.
في هذا الديوان يُقدِّم لنا على مستوى الرؤية تجربة إنسانية تجمع بين ما هو ذاتي كما في قصيدة (صدى الذكريات) ص27، حيث النوستالجيا والحنين لذكريات الطفولة وأصدقاء تك المرحلة “أحمد مأمون”، واللعب بِـ (البِلْي)وباقي تفاصيل تلك المرحلة الجميلة. كما نجد التعبير عن الواقع والهم الإنساني العام، كما في قصيدة (تبادل الأصداء) ص 45، إضافة للتعبير عن القضايا الكلية كالحديث عن “ناجي العلي”. لكن في النهاية كل واحد فينا في حياته بين السماء والأرض ما هو إلَّا “إيكو”، أي صدًى ما، وهذا ما عكسته بداية قصيدة (طفولة صدى) ص 63، ونهاية قصيدة (محاولة لمنع الصدى) حين يقول في ص 57: (ولحين ما ترسى من الجراح/ مش شرط تنده عَ اللي راح/ خِلِص الكلام/ وبينطوي الآن المدى/ وانت ما بين أرض وسما كنت “الإيكو”).
ولكن تبقى الكتابة هي الملاذ للذات الشاعرة، فيقول في قصيدة (صدى فِعْل “باكتب”) رافعًا الكتابة لدرجة التقديس في ص 101: (باكتب .. غير ملزم بلساني/ مش علشاني/ أو علشان الزيت ما يمسِّش طرفه النار/ بل علشان الصوت الخافت لتلامُس قلمي على الورقة../ “زي الأشياء لمَّا تسبَّح” / نوع من أنواع الأذكار).
وقد جاء الديوان يعكس لنا صورة الشاعر المثقف، واتضح هذا في أكثر من ملمح، مثل سرده للأسطورة اليونانية التي تُفسِّر معنى كلمة (إيكو) بروايتين مختلفتين، وكذلك المفتتح لنجيب محفوظ، والثاني لصلاح عبد الصبور في ص 17، إضافة لتوظيف الرمز الديني التاريخي “يوسف” في قصيدة (ونس الصدى) ص 36.
وقد عبَّر الشاعر عن رؤيته في لغة بعيدة عن التقريرية والمباشرة، بل تتميز بالثراء الفني، فاتكأ على الصورة الكلية المهتمة برصد التفاصيل الدقيقة لمشهد يمكن للقارئ أن يتخيله، كما في قصيدة (خلاويص لوحدي مع الصدى) ص 103،مع كتابة القصيدة القصيرة التي تقوم عل التكثيف الدلالي وتحمل أكبر كم من الأحاسيس والمشاعر في كلمات قليلة وكأنَّ النص لوحة تشكيلية واحدة، كما في قصيدة (صرخة مكتومة) ص 21، وقصيدة (صدى من شمس كراستي) ص 25، وقصيدة (صدى بني آدم) ص 81، التي يقول فيها: (ابن آدم اللي جاي من بطن حَوَّا/ صوته أجمل مِ البلابل/ بس صانع للقنابل/ روحه نور/ وضِلُّه أعوج/ زيُّه زي البحر صافي بس فجأة بيبقى أهوج).
وقد ربط الشاعر بين عناوين القصائد والعنوان الرئيس للديوان، إيمانًا من الشاعر بموقف جيرار جينيت وفيليب هامون من أهمية العنوان كعتبة نصية دالة، لهذا جاءت عناوين القصائد تحمل مفردة ” الصدى” أي “إيكو”، كما في: (ما قبل الصدى – صدى من حب جواي – صدى من شمس كراستي – صدى ذكريات – ونس الصدى …. وهكذا)، بما يؤكد أننا أمام شاعر يكتب القصيدة عن وعي فني حتى في رؤيته لاختيار عناوين قصائده. فالعناوين والقصائد لم تأت اعتباطًا باعتبارها مجرد حالة من البوح، بل جات عن وعي وقصدية فنية من شاعر يعرف جيدًا كيف يقوم بتوظيف أدواته الفنية.
وإذا كان الشاعر قد عبَّرعن رؤيته بتوظيف العمق الفلسفي الذي يعكس لنا صورة الشاعر الحكيم الخبير بالحياة في قصيدة (تحريف لمعنى الصدى) ص 37، وختام قصيدة (رصد رجوع موجة) ص 44، لكنه أعطى لتجربته بُعدًا إنسانيا من خلال ظهور إيمانه بالنسبية في الفكر، وعدم امتلاك الحقيقة المطلقة، وهذا ما عكسه أوَّل مقطع قصيد (وَنَس الصدى) حين يقول في ص 35: (ألم القصيدة كان مداده الروح/ والشعر يمكن كان صدى للبوح/ رعشة فؤادي موجة مرتدة/ ولَّا الفؤاد مصدر خروج النوح). فاستخدام كلمة (يمكن) التي تفيد الاحتمال، وكلمة (ولَّا) التي تفيد عدم اليقين المعرفي، يوضحان نسبية المعرفة، وأن الشعر تعبير عن إنسان بكل ما تحمله كلمة إنسان من متناقضات وحيرة وقلق ومناطق رمادية.
ومن نفس المنطلق اتكأ الشاعر على توظيف تيمة سيميائية من البلاغة العربية القديمة وهي توظيف السؤال وتكراره، السؤال باعتباره بداية المعرفة، وباعتباره يعكس قلق الذات الشاعرة من ناحية، ويثير ذهن المتلقي من ناحية أخرى، نجد هذا في قصيدة ( ما قبل الصدى) ص 19، وقصيدة (تفكيك لشفرة الصدى) ص 87.
من القراءة السابقة يمكن أن نقول إن ديوان (إيكو) للشاعر محمد فرغلي يُقدِّم لنا رؤية لتجربة إنسانية تتسم بالعمق الفلسفي، مع توظيف السؤال الذي يعكس قلق الذات، في قصيدة جمعت بين النفس الطويل في الكتابة حينًا، والقصيدة القصيرة المكثفة دلاليًا في أحيان أخرى، مع الاهتمام بالعناوين، وتوظيف الرمز بما يعكس صورة الشاعر المثقف الذي يكتب القصيدة عن وعي وقصدية فنية تتجاوز حالة البوح التقريري المباشر.