هل يلجأ الروائي إلى الخيال انسياقًا وراء متعة التخيل في ذاتها، أو أن شاغله هو مواصفات الرواية؟
إن ما تنبض به حكايات جداتنا من الغرائبية والعجائبية تبين عن مغايرة في حكايات الآخرين. إنها تنطلق في الخيال إلى آفاق مطلقة، أما الحكايات الأخرى فإن آفاقها محدودة.
ذلك هو سر الافتتان العجيب بالتراث الشعبي العربي، كما في ألف ليلة وليلة على سبيل المثال. ما يحرص أدباء أمريكا اللاتينية على تأكيده في إشاراتهم إلى البدايات، أن ألف ليلة وليلة كانت دليلهم إلى عالم الفن الجميل: البساط السحري، البلورة المسحورة، طائر الرخ، جزيرة واق الواق، افتح يا سمسم، وغيرها من الصور التي تصدر عن مخيلة لا حدود لانطلاقاتها.
الحلم والميثولوجيا والفن مصادر مشتركة في اللاوعي، بحيث تظهر عالمًا ليس من المتاح أن تكون له أية صيغة تعبير أخرى. الأسطورة والفانتازيا والغرائبية تتخلق من داخل العمل الإبداعي، تشكل جزءًا في نسيجه.
أذكر – هنا – قول ميلان كونديرا: هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل، خلقها الكاتب وهو مستغرق في تفكيره الحالم. هناك تلك الشخصيات التي يستلهمها عن طريق نماذج بشرية. في بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر، أو غير مباشر. هناك تلك الشخصيات التي تخلق من مجرد تفصيلة منفردة لوحظت في شخصية ما، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب، ولمعرفته لذاته. إن العمل الناجم عن الخيال يحوّل أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جدًا، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها”.
أوافق على الرأي بأن الواقعية السحرية مجرد مسمى لاتيني أمريكي لظاهرة عالمية قديمة. الواقعية السحرية – أداتها قوة الخيال – تكشف عن الأبعاد السحرية لواقعنا المعيش.
يقول ماريو بارجاس يوسا: “بدأت القصة تتحرر من محليتها، من اهتمامها فقط بكل ما هو أمريكي لاتيني. تحررت بالفعل من هذه التبعية، فنراها تتخلى عن مهمتها كخادمة في محراب الواقع المعيش، وأصبحت – في الوقت الراهن – تسلط أضواءها على الواقع لتستمد منه موضوعات معينة لعرضها على الرأى العام، وبذلك مهدت لتغيير الوضع القائم”.
ظاهرة الواقعية السحرية موجودة في الأساطير والملاحم والحكايات العربية، منذ أسطورة إيزيس، وقصة الأخوين، تواصلًا مع الملاحم والسير الشعبية والحكايات العربية: الهلالية وعنترة وبيبرس وحي بن يقظان ورسالة الغفران والزوابع والتوابع وبركات الأولياء ومكاشفاتهم. وإذا كان كل شيء فى أمريكا اللاتينية – كما يقول ماركيث – ممكنًا ، وواقعيًا، فإن المعنى نفسه يصدق على الحياة فى بلادنا.
الوجدان المصرى – والعربى بعامة – يتقبل كل الظواهر الميتافيزيقية، مهما مالت – موضوعيًا – إلى الخرافة. إنه يتقبل أمور المعتقد وما وراء الواقع باعتبارها أمورًا حقيقية، ويجب تصديقها، وممارسة سلوكيات حياتنا فى ضوء ذلك الاعتبار.
الإنسان العربى يمارس ما قد يبدو خرافة، دون أن يضعه في إطار معرفي محدد، بل إن القلة القليلة من خاصة المبدعين العرب، هم الذين يعرفون معنى الواقعية السحرية، بل إنهم يمارسون واقعيتهم السحرية بعفوية الفعل، أو ما أميل إلى تسميته الواقعية الروحية.
مكاشفات وبركات الصوفية تتماهى مع بنية الواقعية السحرية، وتوظيف الفن للبعد الصوفي، ليس لمجرد ما يحمله من خوارق ومعجزات، لكنه يصدر عن فلسفة حياة تشمل الميتافيزيقا وعلم الجمال والهموم الآنية من سياسة وتاريخ وعلم اجتماع وعلم نفس وغيرها.
الصلة موجودة بين الفن السوريالي والأدب الصوفي. وبقدر التأكيد على وحدة الفنون، فإن الصلة موجودة كذلك بين الأدب الصوفي وما يسمى الواقعية السحرية، وجه العملة الآخر للفن السوريالي، والتيار الفني الذي حققت الرواية في أمريكا اللاتينية من خلاله تفوقًا لافتًا.
أنا لست في حاجة إلى الواقعية السحرية، ولا إلى أي اتجاه فني خارج حدود تجربتي الشخصية والبيئية. أصنع المشهد السردي من تكوينات جمالية وخبرات ورؤى، وهو ما أسميه – باطمئنان – الواقعية الروحية.