بقلم: أ.د.مها عبد القادر
(أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة جامعة الأزهر)
نعيش عصر تحتل فيه التقنية الرقمية بتطبيقاتها المختلفة متسعًا لا يستهان به؛ لذا فإن امتلاك الفرد للمهارات التقنية أضحت أمرًا لا جدال حوله؛ حيث يتطلب أن يكون منتجًا على المستويين الفكري والمعرفي والمهاري، قادرا على بناء العلاقات الاجتماعية المثمرة المتنوعة، من خلال إتقانه للمهارات الناعمة، بما يجعله على تواصل بمن حوله؛ ليشارك ويتفاعل ويؤدي ما يوكل إليه ويتحمل المسئولية، ومن ثم يسعى نحو تحقيق ما يطمح بما يتسق مع قيمه التي لا تنفك عن قيم مجتمعه التي يؤمن بها.
وهناك العديد من التصنيفات التي ذكرت بشأن مهارات القرن الحادي والعشرين، وبمطالعة ما تناولته الأدبيات وجد أنها تتضمن العديد من المهارات ويأتي في مقدمتها مهارات العصر الرقمي والتي تشمل التقنية البصرية والمعلوماتية والفهم المسؤول الواعي للثقافات المتعددة التي تنفذ إلينا أو نحتك بها ولكننا باستيعاب الأخر والمحافظة على ثقافتنا وهويتنا وقومتينا وإدراكنا للمخاطر التي تحيط بنا من خلال إعمال الفكر المتعمق والناقد نتغلب علي كل الخروقات التي نتعرض لها بشتي الوسائل والأساليب وسط هذا الانفتاح العالمي.
وتشمل مهارات التفكير العليا مهارات التكيف والتوجيه الذاتي والابتكار بمستوياته، ومهارات الاتصال الفعال، والتي تشمل مهارات العمل ضمن فريق واحد، والمهارات البين شخصية، والمسؤولية الاجتماعية، ومهارات الإنتاجية العالية والتي تشمل مهارات التخطيط والإدارة والتنظيم والقيادة، المبادرة.
وترتبط مهارات القرن الحادي والعشرين بالمتطلبات المهنية التي تفرضها بعض المتغيرات على الأداء النوعي للفرد، ومنها مهارات التفكير العليا، وحل المشكلات بالطرق التقليدية، والتعامل مع شتى الوسائل التكنولوجية التي تمكنه من أن يمارس مهارات الحياة والعمل بصورة وظيفية، ومن ثم يعمل على تأصيل العلاقات الاجتماعية بصورة صحيحة، ومن ثم يؤدي المهارة على أكمل وجه؛ حيث تعرف بأنها مهمة تتطلب إجراءات محددة بسرعة ودقة متناهية.
وبصورة إجرائية تنسدل مهارات سوق العمل من مهارات القرن الحادي والعشرين؛ إذ يجب أن يتمكن الفرد من فنيات التعامل والتفاعل مع تطورات التي المعاصرة ومن ثم مواكبة كل التغيرات الآنية والمستقبلية، وليس هناك خلاف حول ضرورة امتلاك مهارات التفكير والمشاركة وتحمل المسئولية، كما أنه بات الاهتمام بتكوين الاتجاهات الإيجابية وأوجه التقدير والميول لا غنى عنه؛ حيث إن وجدان الفرد ينبغي أن يكون متسقًا مع ما يمتلكه من معارف وممارسات بناءة؛ فتجعله متحملًا صبورًا لديه الرغبة والمقدرة على تحقيق هدفه.
ومما لا شك فيه أن هناك العديد من المهارات التقنية التي تحوي في سياقها بعض الممارسات التي تساعد الفرد على أن يتكيف مع المناخ التقني ويخلق منه فرصة مواتية ليحقق أهدافه وينمي مهاراته النوعية بصورة مقصودة؛ إذ يصنع ويتخذ قراراته ويمارس ابتكاراته في صورة فردية أو تشاركية، ويوظف الأدوات التقنية بما يساعده في تلبية احتياجاته الوظيفية، وينخرط في سياق العمل الجماعي بصورة تنافسية محمودة تزيد من عطائه وإنتاجيته بشكل ملحوظ.
وهناك اهتمام وتوجه بالغ الأهمية حيال تنمية مهارة التوجيه الذاتي لدى الفرد؛ فيصبح مستعدًا ومؤهلًا لأن يتحمل ما يوكل إليه من أدوار ومهام وظيفية في تخصصه النوعي، كما يتمكن من تحديد النقاط التي تحتاج لدعم؛ لتتوافر لديه مقومات العمل الإتقاني، وهنا لا يلتفت مطلقا للأساليب التقليدية في إنجاز مهامه؛ فلديه أنماط من التفكير المتنوعة ما بين نقد وابتكار وعمق وسبر وتنظيم يجعله دومًا ما يخرج عن السياق التقليدي لرحاب الإبداع والابتكار؛ ليحقق طموحات وتطلعات وأمنيات متوقعه في ضوء إعداده الثري.
وثمة تأكيد على أنه لا انفصال بين وظيفية مهارات القرن الحادي والعشرين في مجال العمل أو الحياة؛ حيث إن التحديات أو الصعوبات أو المشكلات التي قد تواجه الفرد أو الجماعة ينبغي أن تكون هناك مسارات وآليات للمواجهة البناءة التي تفسح المجال للتفكير العميق بأن يخلق الحلول الابتكارية، ومن ثم فلا غنى عن وظيفيتها في كل الأحوال.
وهناك اتساق واضح فيما بين مهارات القرن الحادي والعشرين والمهارات الناعمة؛ حيث إن الأخيرة تعد جزءً رئيسًا من الأولى، كما أن المهارات الناعمة تتكامل مع المهارات التقنية لتقدم الأساس الذي يقوم عليه التحول الرقمي؛ لذا يمكن القول بأن التكامل فيما بين القدرات التقنية والمهارات الناعمة يساعد الفرد على التفاعل والتكيف والوظيفية مع كافة التغييرات السريعة في العالم الرقمي.
وتتضمن المهارات الناعمة مجموعة المهارات النفسيّة والشخصيّة التي تُساعد الفرد على صناعة واتخاذ قراراتٍ مدروسة بعناية، وتمكنه من التواصل بفعاليّة مع الآخرين، وتنمي لديه مهارات التكيف مع البيئة المحيطةِ مهما بلغت التغيرات بها، وتساعه في إدارة الذات؛ حيث تعضيد المقدرة على بلوغ الهدف وتحقيق النجاحات المتتالية، وفي هذا الإطار تتشكل مجموعة القيم والاتجاهات التي تمكن هذا الفرد من بناء تفضيلاته من الممارسات التي تتسم بالذكاء وفق ما قد يتعرض له من مثيرات ومنبهات.
وتؤدي المهارات الناعمة دورا فاعلا في توجيه السلوك حيال ما يتوافر من خيارات، كما تحفز لمزيد من التعاون والمشاركة في صورتها الصحيحة، وتضمن تنمية مقدرة الفرد على دارة ما قد يتعرض له من صراعات أو مشكلات مفاجئة؛ ليستطيع أن يحقق مراده ويفي بمتطلباته واحتياجاته، ويستكمل مساره، ومن ثم تعمل هذه المهارات على صقل شخصية الفرد، وبالأحرى تؤثر بشكل إيجابي على ما يمتلكه من مهارات صلبة.
وفي ضوء ما تقدم نؤكد أن المهارات الناعمة تقوم على نمط من التفكير قائم على قناعة ذاتية لنسق قيمي يتكاملان فيما بينهما فيحققان الممارسة أو الأداء المرتقب من الفرد، ويحدثان أثرا في الوجدان، ومن ثم تتباين الممارسات والأداءات من شخص لآخر وفق التآزر بين تلك الجوانب المشار إليها، وبدون شك يحاول الفرد بصورة حثيثة على تحسين أداءاته وفق آلية التقييم الذاتي التي يتبناها.
والتدريب على تنمية وصقل المهارات الناعمة أصبح متاحا عبر برامج مخططة ومقصودة؛ فيمكن أن نعمل على تنمية إدارة الوقت وتعضيد مهارات التواصل والمقدرة على صناعة واتخاذ القرار وممارسة أنماط التفكير المختلفة وفق السياق المستهدف، وأساليب القيادة الابتكارية، وتنمية القدرات الذاتية وريادة الأعمال، والطموح، والإصرار، واكتساب الممارسات الحيوية، والنشاط الفعال، والأخلاق المهنية، التعلم مدى الحياة.
إننا في أشد الاحتياج لاكتساب وتنمية المهارات الناعمة بكل تنوعاتها سالف الذكر؛ حيث أضحى التقدم التقني وما أفرزه من تطبيقات لا حصر لها من الذكاء الاصطناعي جعلت التقنية تتحكم في المكون الإنساني، وهذا يشكل خطرا على الطبيعة الإنسانية التي ينبغي أن نراعي فيها بُعد التكامل المعرفي والمهاري والوجداني؛ فلا غنى عن أي منهم ومن ثم فالتفاعل صار فرض عين في حياتنا العملية والعلمية على السواء.
حفظ الله بلادنا وشعبنا الواعي الأصيل ووفق قيادتنا السياسية لما فيه خير البلاد والعباد.