»»
ومن آن لآخر يهدي الأديب الروائي أحمد رفاعي آدم منصة المساء أون لاين غيضا من فيض إنتاجه الأدبي الغزيز، يقطف سطورا من الحياة بأفراحها وأتراحها وتجاربها، ويحيكها في ثياب قصصية محكمة الحبكة والبناء ..
وننشر له عبر هذه السطور قصته القصيرة
“اليوم نبتت في شاربي شعرةٌ بيضاء”
🍂
اليوم نبتت في شاربي شعرةٌ بيضاء !!
الساعة الآن تشير نحو الرابعة وأربعين دقيقة. صحوت لتوي من نومٍ عميق، لذيذ، مريح، عزَّ علي أن أقطعه، وكان الأمر شاقاً أن أغادر فرشتي الوثيرة لكن ما باليد حيلة.
غادرت فراشي وغرفتي ودلفتُ بتكاسلٍ إلى الحمام. تعجبتُ من هدوء البيت. أين ذهبتْ حرمنا المصون والولدان؟ في الطريق إلى الحمام لم أسمع لهم صوتاً ولم ألمح لهم طرفاً. أها .. تذكرتُ الآن! ذهَبَتْ لزيارة أمها ،لقد أخبرتني قبل النوم لكن يا لرداءة ذاكرتي.
في الحمام تحررتُ من ملابسي فقد عزمتُ على أن آخذَ دُشاً دافئًا وكان من عادتي قبل الاستحمام أن أطالع وجهي في المرآة بدقة. لذلك وقفتُ أمام المرآة وأسلمتُ نفسي لرغبتي الجامحة في تفحص ملامح وجهي الأربعيني وخطوط الزمن التي باتت ملحوظة بمنحنياتها عند أطراف جفون العين لاسيما إذا ابتسمتُ وضحكت.
فجأة وبدون سابق إنذار لمحتها. لمحتها وتيقنت منها وأعترتني دهشة عقدت لساني. يا ربي .. أهذه شعرةٌ بيضاء؟ متى نبتت؟ ولما الآن؟ وما معنى ذلك؟ هل حان الوقت لكي أشيب؟ هل بدأ منحنى العمر في النزول؟ وتكدرتُ واغتممتُ وامتلأتْ روحي بهمٍ ثقيلٍ عجزتُ عن أجدَ له تفسيراً!
فجأة سمعتُ باب الشقة يُفتح وأتاني صوت أطفالي. لقد عادوا. بسرعة ناديت على زوجتي.. اقتربَتْ من باب الحمام وسألتْني ماذا أريد .. لففتُ جسدي بفوطة وفتحت الباب وطلبتُ منها الدخول. جزعَت وهي تهمس:
– يا رجل اعقَل .. العيال بالبيت!
جذبتها من يدها وأنا أقول بغيظ:
– يا شيخة اتوكسي .. أنا في مصيبة.
نسيتْ خوفها وسألتني ما الخبر فأجبتها بصوتٍ مكسور:
– اليوم نبتت في شاربي شعرةٌ بيضاء.
ضحكتْ بصوتٍ عالٍ خشيتُ معه أن تلفت انتباه الصغار فوضعت يدي على فمها وهمستُ:
– اصمتي.
لكنها نزعت يدي وقالت مستنكرةً قلقي الطفولي:
– وماذا يهمك من شعرةٍ بيضاء؟
صدمني سؤالها وشعرتُ بالإهانة. نعم إنه لأمرٌ مثير للضجر والإهانة ألا تشعر الزوجة بما يكدر زوجها. أخبرتها وكلي حزن أن الشعرة البيضاء تعني الكثير. لم تفهم. فعدت أقول:
– اليوم نبتت في شاربي شعرةٌ بيضاء. ألا تفهمين؟ شعرةٌ بيضااااء. اليوم شعرة وغداً شعرة وبعدها شعرات وشعرات. اليوم في شاربي وغداً في ذقني وبعد غدٍ في رأسي. لقد شبتُ .. لقد شبت!
الآن بدأتْ تشعر بي. لكنها قالت بجمود:
– وما عليك في ذلك؟ أقصد .. ما الذي يضايقك لهذا الحد؟
قلت:
– لا يزعجني ظهور الشيب، إن ما يزعجني بحق هو متى ظهرت؟ لم أنم إلا قليلاً ومع ذلك باغتتني وظهرت!
هنا اكتست ملامح زوجتي بجدية أعرفها وقت الصراحة. نظرت في عيني برهةً ثم قالت:
– في الحقيقة لقد نمتَ كثيراً، طال نومك يا عزيزي ولم تنتبه.
جادلتها قائلاً:
– عن أي نومٍ تتحدثين؟ لم تبلغ الساعة الخامسة بعد! حتى لو كان كلامك صحيحاً – وأنا أشك في ذلك – من حقي أن أنام، كنتُ متعباً ويائسا وحزيناً.
الذنب ليس ذنبي، لقد خطفني الوقتُ وعاجلني الشيبُ. إنها مؤامرة. نعم .. إن هي إلا إحدى مؤامرات الحياة التي لا تنتهي. ما الضرر في أن أنام قليلاً وأستريح؟
صاحت:
– بل كثيراً!
دافعتُ عن نفسي:
– بل قليلاً .. وأقل من القليل. عصرتني ساعات العمل ومرَّ الوقت مسرعاً. أستطيع أن أقول -وأنا صادق- لقد خُدِعت! ما كان ظني هكذا بالوقت! ما كنت أحسب الشيبَ يباغتني بهذا الشكل مستغلاً وقت نومي!
قالت بنبرة كمن صعبُت عليها حالي:
– لقد كنتَ واهماً. كم حذرتُك. كم نصحتُك أن تستيقظ. لطالما نبهتُكَ أن تأخذ حذرك. ولكن يا للخسارة ضربتَ بكلامي عرض الحائط وألقيتَ بنصائحي في سلة المهملات. والآن سيادتك تحتج وتعترض وتتساءل. لقد فات الأوان.
صمتُ فلم أعلِّق. كانت محقة. لقد طال نومي وحين استيقظتُ وجدتني في بداية الطريق المؤدية للانحدار. لا حاجة للجدال. علي أن أعترف بتقصيري وأتعامل مع الوضع الجديد. لقد نبتت في شاربي شعرةٌ بيضاء. نبتت رغم عني. نمتُ وحين صحوتُ كانت هناك في وسط شاربي مزروعة. علَّي أن أستعدَّ. لقد بلغَ المنحنى قمة الصعود واليوم يبدأُ في النزول فقد نبتت في شاربي شعرةٌ بيضاء. علي أن أتعامل مع هذا الوضع.
طال صمتي فخرجتْ وأغلقتُ باب الحمام. عدتُ للمرآة ورحتُ أطالع الشعرة البيضاء ولا أدري لماذا لحظتئذٍ نزلت دموعي. غسلتُ وجهي وأزلتُ آثار الدمع ولبستُ ملابسي دون أن أستحم .. لم يعد لدي وقتٌ للحموم، فقد نبتت اليوم في شاربي شعرةٌ بيضاء.
-تمَّت-