بقلم : د. ناهد الطحان
في أسلوب سردي رشيق وصياغة تتسم بالتشويق والإمتاع والإستبطان والإيحاء، وفي بنية سردية عميقة وحبكة متقنة تحيل إلى واقعنا الثقافي والاجتماعي، يستدرجنا الأديب ابراهيم الديب في مجموعته الثانية ( الروتين اليومي )- بما تشير إليه عتبة النص المعرفة من خصوصية الروتين من جهة واعتياده من جهة أخرى – لروتينه اليومي بما يحوي من رموز وطقوس ثقافية وخبرات ومواقف حياتية، عبر الولوج في عوالمها وسماتها الأسلوبية والإنسانية والفكرية الراقية .
يبدأ الأديب ابراهيم الديب مجموعته بمقالات فكرية تدور حول تجربته الخاصة مع القراءة والإطلاع لنتعرف على أهم من أثروا في تشكيل وعيه الثقافي سواء العقاد أو طه حسين أو انيس منصور وفؤاد زكريا وحسين مؤنس والحكيم ونجيب محفوظ وشوقي ضيف ويحي حقي والشرقاوي وزكي نجيب محمود ونيتشه وغيرهم من رواد الحركة الأدبية والثقافية في عصرنا الحديث والذين حفزوا موهبته الأدبية لينطلق إلى عالمه الخاص مصورا بإبداعه روتينه اليومي كمرحلة تمهيدية خصبة لاكتشاف ذاته بخطى ثابته ، اذ يحكي كيف اكتشف أنيس منصور من خلال عموده اليومي ( مواقف ) في الأهرام بأسلوبه السهل وتنوع وغزارة مقالاته وبعشقه للعقاد ، مما حفزه لقراءة العقاد وطه حسن واكتشف معهما جواهر الأدب بعد ذلك، ويقدم أيضا في مجموعته ( الروتين اليومي ) قراءات لدراسات أدبية وتأريخية مهمة كان لها أعظم الأثر في حياته مثل كتاب ( التاريخ والمؤرخون ) للدكتور حسين مؤنس وكتاب ( تاريخ الأدب العربي ) للدكتور شوقي ضيف وكتاب ( طلع البدر علينا ) لأنيس منصور .
ومن خلال رحلته الزمكانية وتجوله في طقسه وروتينه اليومي يبحر ابراهيم الديب برؤاه النقدية وأسلوبه الساخر مقتربا ومتوجها للقاريء بشكل أساسي ليبوح له حينا أو يقدم له ملاحظات ثرية حينا آخر ازاء نماذج ومواقف وشخصيات وأماكن عاش فيها ومعها ، وكلها تتسم بالانحراف السلوكي او الفكري أحيانا أو الحيرة في أحيان أخرى أو يقدم نقدا اجتماعيا لعادات وتقاليد وسلوكيات غير مبررة ولا نفع منها .
في قصة ( النيش ) ينتقد فكرة الإصرار من قبل المقدمين على الزواج على شراء النيش الذي يمثل متحفا دون نفع يحوي أطقما وغير ذلك من الأمور المتحفية، وفي ( مشاهدة المباراة ) ينتقد الراوي بضمير المتكلم ما أنفقه بكل أريحية في ماضيه الفائت على المشروبات التي يحبها بدلا من مشاهدة المباراة في المقهي .
وفي ( الكحيت ) التي يذكرنا فيها بالشخصية الكاريكاتورية التي ابتدعها الكاتب الساخر أحمد رجب، واصفا الراوي هنا ما تمارسه الشخصية من مفارقة بين الظاهر والباطن ، اذ يستعرض الكحيت قدراته وأملاكه ورحلاته وعلاقاته رفيعة المستوى في حين يرتدي ملابس ممزقة وهو يشرب عقب سيجارة ويجلس في مكان بائس مثله وهو أمر يثير السخرية بالفعل في إشارة لانتقاد كل المدعين والمزهوين بأنفسهم والذين يعلنون غير ما يضمرون !!.
وعلى مستوى الطقوس المجتمعية ، يتجول بنا الراوي في مولد سيدي السيد أبو المعاطي بدمياط – مسقط رأسه ومسقط رأس المؤلف – والذي اكتسب شهرة كبيرة لا لكون صاحبه وليا أو شيخا ولكن لكونه رجلا وطنيا حارب ضد الصليبيين وظل الإسم باقيا مبجلا في نفوس الناس حتى سمي المولد باسمه ونسى الناس ماهية الشخص واعتبروه وليا من الأولياء !!.
وفي قصة ( أنا غير مسؤول ) تحدث مواقف كوميدية بين الراوي وبين زملائه من المجندين وهو مزاح يستمر حتى يقع الراوي فريسة لتصرفاتهم الصبيانية ويعلن عدم مسؤوليته عنهم وعن أفعالهم .
وينتقد الراوي في قصة ( المهندسين ) أفعال البعض ومحاولة ابتزازهم للناس واستعراض معلوماتهم الهندسية من أجل مكاسب خاصة وهو أمر يحدث في كل زمان ومكان .
ويعود بنا الراوي من جيل إلى جيل ومن زمان إلى زمان في قصة ( العطارين ) فنرتحل حتى العصر الفرعوني لنتأمل الناس في سوق العطارين ونرى نفوسهم وبضائعهم عبر مواقف مختلفة ومشاعر تتراوح بين اليأس والرجاء شأنها شأن كل زمان ، فلا شيء يتغير ربما غير الملابس والمشاهد .
وفي قصة ( في مديح رأس البر ) يتغزل الراوي في رأس البر بموقعها الجغرافي الخلاب وبساكنيها ومعالمها وبحرها الذي يتجمع الناس حوله في سعادة وشعور بتجديد حياتهم وانعاش نفوسهم وجلودهم وتحررهم من عذاباتهم النفسية والجسدية .
ومن خلال انطباعته النفسية يطالعنا الأديب ابراهيم الديب في قصص ( الوسواس والقلق النفسي ) و( الربيع ) و( الخريف ) و ( الشتاء ) بانعكاسات الواقع على نفسه الحساسة ومشاعره المتقلبه لينهي مجموعته الروتين اليومي باعتذار لكل من تأخر عن قراءة أعمالهم ظنا أنه انتهى من المطالعة والقراءة .
إن الأديب ابراهيم الديب يقدم لنا روشتة ثقافية وأدبية واجتماعية عبر مجموعته ( الروتين اليومي ) التي تحمل تجاربه مع القراءة وابداعه الخاص ، فالأدب والثقافة بالنسبة له روتين يومي أنار عقله وفكره ونفسه عبر رحلة حياتية وفكرية طويلة اكتشف من خلالها ما وراء عالمه الذاتي من منابع ربما لا يكتشفها الكثيرون وتظل خبيئة غائبة عن وعينا، والمحظوظ وحده هو من يصل إلى مرحلة الإدراك، التي تمكنه من البحث والتنقيب عن كل ما هو أصيل ، وبحساسية ابداعية يكتشف ثرواتها فيزداد إدراكا يمكنه فيما بعد- عبر موهبته الأصيلة وإعمال فكره – من الانطلاق إلى عوالم ابداعية خصبة تتوسل بالخيال والواقع .
فالحياة درس كبير بما تحمل من رموز وعلامات على الطريق، والأدب هو مرجع حياتي عبر خبرات وتجارب شخصية وأبعاد انسانية يلتقط وينتقي هذه الرموز التي تحمل همومنا وأحلامنا، ويتصيد لحظات وذكريات ومنعطفات في حياتنا تنعكس على الموهبة الأدبية الأصيلة فتستلهمها وتصنع منها عالما إبداعيا عميقا عبر إعادة انتاجها، وهو ما استطاع الأديب ابراهيم الديب أن يصوره لنا كما فعل في مجموعاته السابقة البيت القديم وصخب العمر وبيت العجوز وقهوة الديب ، ليؤكد مسيرته الأدبية بقوة وقدرة الأدب بعامة والقصة القصيرة بشكل خاص على معالجة قضايانا ومواقفنا وأزماتنا النفسية والإجتماعية والحياتية ، مما يسمح بحلول عادلة نحتاجها، كي يتسق فكرنا وسلوكنا في عالم متقلب وأوضاع معكوسة لا هم لها سوى تشويه رموزنا وأنساقنا الثقافية .