»»
تتزين العديد من المنصات الرقمية الجديدة بثياب عصرية خادعة وتلتحف بعناصر من الإبهار والوسائط المتعددة،لكنها أصبحت وأضحت وأمست تقدم السم الزعاف في العسل المصفي، بلا حسيب ،أو رقيب!.
إنها حروب الجيل من نوع جديد تتحدي الأصول المهنية ،وما تعارف عليه أهل الإعلام وأبناء صاحبة الجلالة شيوخا وشبابا.
كما تتمرد علي كافة القواعد الأخلاقية والمجتمعية والأسس العلمية لنظربات الإعلام والاتصال الإنساني،وتصر علي إشعال معارك خفية
تتجاوز حدود الزمان والمكان،مع القيم والأخلاق والهوية !
وفي زحام سيل الإعلام المتدفق ليلا ونهارا ووسط هذا الزحام المصطنع، وذاك الزخم المغرض تصدر “المؤثرون” من البيلوجرز واليوتيوبرز والمنصات الدرامية المشهد وتقدموا الصفوف ،وتواري صوت الإعلام الهادف المتزن وأصبحوا في سنوات قليلة من قادة الرأي العام، يمتلكون أحيانا سلطة التوجيه والحشده ،وفي أحيان أخري التضليل وتزييف الوعي والحقائق، وهنا منبع الخطورة.
وقد تناسي هؤلاء الدخلاء والمتربحين أن صناعة إعلام عشوائي الهدف والمضمون، لا يقدم ولا يؤخر ،ولا يحرك ساكنا ،ولا يسكن متحركا فهو كالعدم سواء!
كما تجاهلوا أن التأثير المضاد للإعلام ، هو حصاد سلبي لرسالة إعلامية منقوصة العناصر ، أو حين يتعمد القائم بالاتصال صياغتها في سياق ما بطريقة ملتوية أو مضللة، أو ألح في عرضها ،فيأتي هذا التأثير المضاد أو المعاكس،بمردود سلبي ينسف هذه الجهود الخبيثة،و قد لا يحقق أهداف الرسالة من الأساس.
ومع غياب الدقة والموضوعية ،وتعدد الرسائل الاعلامية الموجهة ،والإصرار علي الاستخفاف بعقول الناس والاعتماد علي التضليل والإثارة، فتأتي العقوبة من المتلقي سريعا ،بالضيق والضجر الإعراض التدريجي عن الرسالة المستهدفة أو ما شابها واللجوء إلي فكرة التعرض الانتقائي، ومن ثم فقدان الثقة المصداقية.
أتصور أن هذا الممارسات الإعلامية الشاذة من أهم خطايا منصات الإعلام الرقمي ،ولم تسلم من هذه “الفتنة المستعرة” مؤسسات عريقة ،حيث وقعت في الفخ ،وارتدت نفس الثياب الخبيث والتحفت بقوانين هذا الصراع مواقع ومنصات الكثير من الصحف المستقلة و الخاصة.. والنتيجة الطبيعية هي فقدان ثقة القارئ والمشاهد والمتابع وبدأت رحلة الهروب للمنصات الغربية ،كالمستجير بالرمضاء من النار !.
وفي تقديري أن المؤشر الأكثر خطورة ، هو تمرد منصات الإعلام الجديد علي القيم والمبادئ ومفهوم الاسرة والانتماء،علاوة علي عدم الالتزام بفكرة الحيادية والموضوعية والتحلي بالمسؤولية الاجتماعية والإنسانية وكافة الابعاد القيمية.
ومما يقلق أن المجتمعات النامية والناشئة كعادتها تنتظر كل ما هو قادم من الغرب ،وأحيانا لا تنتبه لأضرار هذه المنصات كي تتخذ مزيدا من الإجراءات الاحترازية تحصنا من شرارها الن
المتزايدة وسمومها المتدفقة!
أتصور أن ما يحدث نوع من العبثية المهنية التي تستند فقط لأسس وقوانين صناعة “التيرند” المحموم ،و لا تلتف للأبعاد المهنية،أو للاعتبارات الأخلاقية والمهنية.
وهناك فارق كبير بين تضمين الحجج العقلية والمنطقية والعاطفية،وصياغة عناوين جذابة ومشوقة ،وبين تضليل القارئ وجلبه لروابط ونوافذ نفعية ،لا هم لها سوي تحقيق الأرباح،وجلب نوعية سلبية ومقززة من الإعلانات تكرس التمرد ورفض الواقع عدم الرضا وتخلق أحيانا رغبات جديده قد تفوق فكرة التأقلم والتعايش مع مستجدات الحياة ومستجدات العصر.
ويبدو أن الاتصال الافتراضي بصوره الجديدة ،يتطلب قوانين مغاير ونظريات خاصة،لإنقاذ فكرة الإعلام من الأساس،وترشيد وتقويم وربما ترويض الإعلام الرقمي الجامح.
لقد سقطت كل نظريات الإعلام ومباديء الاتصال الإنساني، التي أرسي دعاءمها علماء الاتصال مثل الباحث الامريكي ولبرشرام ورفاقه من أهل الغرب ومنظريه ، اعتبار من النصف الثاني من القرن العشرين.
والاأدهي والأمر غياب فكرة التغذية المرتدة عن هذه المنصات وتجاهل التواصل الفعال مع الجمهور المتلقي ،لتحقيق رغباته وضمان جودة الرسالة أو تغييرها شكلا ومضمونا ،مما أوجد اتجاها سلبيا وتوجسا حول حقيقة نوايا هذه المنصات.
اعتقد ان أكبر التحديات التي تواجه مشروعات التنمية الاجتماعية والاقتصادية
هو كيفية إحداث الترشيد الرقمي ،واتقاء شرور منصات الإعلام الجديد وتحصين الهوية من عوالقها وتأثيراتها السلبية!.
إن شواهد الواقع تؤكد أن مؤسسات الإعلام القومي هي السياج القوي ،وطوق النجاة لتصحيح هذا المسار المعوج.
وستظل منارات مضيئة ،بما تملكه من كوادر وبنية أساسية ورموز مهنية قادرة على خوض هذا المنافسة بشرف وحرفية واحترام لعقول الناس ومعتقداتهم وأنماط تفكيرهم ،بل والتفوق علي هذه المنصات التي أفسدت الهوية والانتماء والقيم من خلال بث مواد مغرضة تعتمد علي الإثارة بكافة صورها ،وأحيانا التشكيك
في الثوابت القيمية وترسيخ التمرد على مفهوم الأسرة والوطن.
هذا علاوة ما تبثه من دعايات مغرضة وشائعات تكرس الكراهية والخصومة الاجتماعية الحادة ،وهذا ما كشفت عنه عدة دراسات علمية ناقشها مؤتمر كلية الإعلام قبل أيام والذي وسم بعنوان: “صناعة المحتوي الرقمي في العصر الرقمي.. الآليات والتحديات”.
ورغم ضبابية المشهد ،فلا تزال الصحف القومية ومؤسسات الإعلام الرسمي تتجمل بالرصيد الاعظم من المصداقية والموضوعية الدقة.
وفي أجواء الحوار الوطني الفعال ، يطمح أهل المهنة في إصلاح منظومة الإعلام الرقمي شكلا ومضمونا،وأن تعود لهذه المؤسسات لسابق عهدها المزدهر كصروح لصناعة الإعلام الورقي والرقمي المتزن، بمزيد من إعادة الهيكلة واستغلال ما لديها من أصول ومقدرات وطاقات مبدعة.. ولعل الرسالة تصل سريعا لمن يهمه الأمر!!